سمير عادل | العرب
في فيلم وثائقي بعنوان “حكايات شرف وعار” من إنتاج “بي بي سي” في نهاية تسعينات القرن الماضي، يتحدث عن نضالات المرأة الفلسطينية وجسارتها في مقارعة الاحتلال الإسرائيلي، ويسرد الفيلم بأن المرأة الفلسطينية في محطات نضالية معينة تظهر الأكثر جرأة من رفيقها الرجل بالقيام بعمليات عسكرية وأمنية ضد الاحتلال. وتمضي قصة الفيلم أنه بعد اتفاقية أوسلو وإرساء حكم السلطة الفلسطينية، صدرت قرارات من الأخيرة بإعادة المرأة إلى البيت أو معاملتها في أفضل الأحوال بأقل مكانة، وممارسة التمييز ضدها من قبل السلطة الجديدة، في الوقت الذي كان المشاركون في السلطة أنفسهم هم من قاموا بتجنيد المرأة وتعبئتها وحثها للمشاركة في حرب التحرير والاستقلال.
النظام الذكوري هو أحد أوجه النظام الطبقي، أو هو الوجه القبيح المعبر بشفافية عالية عن ذلك النظام ودون أية رتوش. نظام يحافظ على الامتيازات الطبقية دون الأخرى. أي هو نظام امتيازات مادية ومعنوية تمنح للرجل دون المرأة.
إن الدفاع عن هذا النظام، وديمومته يتم عبر الإنفاق العالي على الدين والأيديولوجيا والأخلاق والسياسة وحتى في ليِّ عنق العلم في حالات معينة لإثبات دونية المرأة بيولوجيا. إنه استثمار كبير، ومن خلال البنية المشار إليها، يتم تأطير سياسة التمييز ضد المرأة بمنظومة من القوانين للحفاظ على تلك الدونية، ويعني بالمطاف الأخير تعبيرا صارخا للحفاظ على تلك الامتيازات.
للوهلة الأولى يتم تصوير الممارسة الذكورية بأنها تصرف أخلاقي وشخصي، وهناك من التيارات النسوية خاصة، ما تقوم بالترويج لذلك التصوير، لطمس ماهية النظام السياسي الذي ينتجه ويعيد إنتاجه، أو في أفضل الأحوال إعادة أسباب تلك الممارسة الذكورية بأن منبعها هو “النظام المتخلف” أو أنها “حق طبيعي” لأنه جزء من “تقاليد وأعراف” المجتمع. إلا أن الحقيقة التي يتم التغطية عليها بدراية أو دونها، هي أن الذكورية نظام اقتصادي وسياسي واجتماعي يُستثمر فيه لتوليد إنتاجه.
ولذلك يتعرض المجتمع إلى أكبر عملية احتيال وتضليل، ليس في غسيل الأموال التي تأتي من تجارة المخدرات وتجارة الجنس والأعضاء البشرية والسلاح، بل في طمس ما وراء ذلك من مصالح في دونية المرأة. وتبذَلُ مساعٍ مهولة على جميع الصعد للحيلولة دون تمتعها بمساواة كاملة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. وأبطال تلك العملية هم الطبقة الحاكمة من رجال الدين والساسة والأكاديميين من كل حدب وصوب.
فعندما تشرع قوانين تبيح تعدد الزوجات أو زواج المتعة للرجال (في المذهب الجعفري)، أو كما إباحتها دولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام التي سميت بداعش بالحصول على الجواري كما حدث مع النساء الأزيديات وإلى حد ما المسيحيات فضلا عن تعدد الزوجات وما ملكت الأيمان، تستنبط حقانية هذه القوانين من الدين بكل ما أوتي من ثقل. وهناك من يصنف نفسه في خانة التحرر، يذهب في تبرير تلك القوانين بأنها جزء لا يتجزأ من تاريخ وتقاليد ووجدان الجماهير، وعليه يبرر بعدم أحقية أي شخص أو طرف في تشريع قوانين مخالفة مثل فصل الدين عن الدولة والتربية والتعليم والذي يقود إلى إلغاء كل تلك القوانين آنفة الذكر. وجميع الذين يسوّقون لهذا الأمر هم من أولئك الفطاحل الذين يُنَظّرون إلى أبدية وقدسية تلك القوانين، لا يصمدون دقيقة أمام حوار متمدن يدحض تلك القوانين ويفند أسسها التاريخية والسياسية والاجتماعية. ونراهم يتسلحون بستار قدسية تلك القوانين وقدسية الدين وقدسية مشرعيها الأوائل. بيد أن الحقيقة في إضفاء تلك القدسية وتأليه ممثلي ومشرعي تلك القوانين التي تنعكس في الممارسة الاجتماعية وقوانين الأحوال الشخصية، هي إضفاء الشرعية على امتيازات الرجل في النظام الذكوري.
فعلى سبيل المثال، منع تعدد الأزواج أو منع زواج المتعة للرجال يعني سلب امتيازات الرجل في ذلك النظام، ويعني حرمانه من “حق” توارثه من سلفه الذي اغتصبه دون أن يسأل عن مصدره، وتصور أنه حقه الطبيعي ولا يمكن المساس به.
وحتى في بعض الجدل التي نشاهده في الفضائيات، عندما تتم محاولة دحض قوانين تعدد الزوجات أو حصر ممارسة العنف بيد الرجل ضد النساء، ينحصر النقاش في عبارة يتم تداولها؛ أن ما كان صحيحا بالأمس أو في العصر الأول لدولة الخلافة الإسلامية لا يصح اليوم. وأقل ما يمكن وصف هذه الأحجية، بأنها محاولة يائسة وخجولة وغير جريئة للتنازل أمام السيل الهائل من الترهات الفكرية والسياسية والاجتماعية لتبرير دونية مكانة المرأة وسلب إنسانيتها. وهناك عشرات الثورات والانتفاضات، وقد يكون ما وصلنا من التاريخ القديم ثورة العبيد التي قادها سبارتاكوس في 70-71 قبل الميلاد، أو كما يسمونها الحرب الثالثة للعبيد اندلعت منذ عصر الروماني ضد الظلم والاضطهاد. فالعبودية والاضطهاد الجنسي والعرقي والقومي والديني والفكري لا يصحّان ومنافيان بشكل كلي للماهية الإنسانية، لا يصحان اليوم، ولم يصحّا قبل 1400 عام، ولن يصحّا بعد 1400 عام. وأما ما يتم من حديث حول الدفاع عن شرع الله، إنما هو دفاع عن امتيازات النظام الطبقي – الذكوري الذي يمنحها للرجال دون النساء.
إن مقولة المساواة ترعب النظام الذكوري بشكل مطلق وتهدد أركانه. هي عنوان لسلب امتيازات الرجل حتى في أدق التفاصيل الحياتية اليومية، بدءا من تقسيم العمل في المنزل، إذ يفرض على الرجل التنازل عن تمتعه بالحصول على الطعام دون أي جهد، ومرورا بقضاء الوقت في تربية الأطفال والمشاركة في عملية تنظيف المنزل والغسل، وصولا إلى “حق” الممارسة الجنسية الذي يتحول إلى احترام رغبة الشريك وليس “حقّا” تم تصويره من قبل النظام الذكوري بأنه حكر على الرجل ومتى ما شاء. إن الامتيازات التي يمنحها النظام الذكوري للرجل تحميها سلسلة من المؤسسة الدينية وسلسلة من قوانين الدولة.
وهكذا تمضي اللامساواة في عدم التكافؤ في فرص العمل، ففي العراق على سبيل المثال لا الحصر تبلغ نسبة البطالة في صفوف النساء 87 في المئة. وهذه العملية مدروسة ومخطط لها، إذ أن جميع القوانين التي تنظم، حتى الأعراف والإسقاطات الأخلاقية على النساء، هي للحيلولة دون الخروج في احتجاجات ضد الظلم الاقتصادي الذي يتعرضن له مقارنة بالرجال. وبالتالي يعني تنصل الدولة من مسؤوليتها في توفير فرص العمل وفي الإنفاق على العمل المنزلي الذي تزاوله المرأة بشكل مجاني. وتعني بالأخير أن أموال الموازنات الحكومية بدل إنفاقها على إحلال المساواة بشكل مادي وتحويلها إلى واقع حال، يتم إنفاق قسم منها على إرساء أسس النظام الذكوري وإضفاء القدسية عليه وعدم المس به من خلال تأسيس جيش من الموظفين البيروقراطيين مرتبطين بشكل مباشر بالدولة يجملون صورتها ويبررون سياستها التمييزية ضد المرأة ويضفون هالات كاذبة ومخادعة على قوانينها وتحرسها مراكز الدراسات والمؤسسة الدينية، والقسم الآخر يتم إدخاله إلى جيوب أعضاء الطبقة الحاكمة وشركاتها ومؤسساتها الاقتصادية والمالية.
إن مقولات التخلف والرجعية هي مقولات مادية، ولكن لا يمكن حصر سلب إنسانية المرأة ومكانتها الاجتماعية بتلك المقولات، والتي تعني من الناحية العملية، محاولة للتملص من مسؤولية المبادرة بمد اليد لإماطة اللثام عن ماهية ذلك النظام المتخلف والرجعي، وكشفها أمام المجتمع، لإيجاد حل جذري لها بدلا من الدوران في فلكه وبلع طعم التضليل الذي تمارسه الهيئة الحاكمة المدافعة عن النظام الذكوري.
النظام المتخلف والرجعي هو نظام يدافع عن امتيازات النظام الذكوري في النظام الطبقي. وينطبق حتى في وصفنا للنظام السائد الحالي بالنظام المتخلف. ولكن لا ينظر إليه هكذا في الأكاديميات البرجوازية أو أكاديميات النظام الطبقي الذي نعيش فيه، بل إنه يجيز الشكليات الصورية دون المحتوى، دون النظر إلى قوانين الأحوال الشخصية وقوانين العمل والمناهج التعليمية والدراسية ومنح اليد الطولى للمؤسسة الدينية بالتطاول على حياة النساء بشكل خاص والمجتمع بشكل عام.
النظام التحرري في نظر تلك الأكاديميات هو نظام يسمح بحركة رأس المال دون أن يعكر أحد صفو حرية حركته. وما عدا ذلك فلا شأن لها به، بل ويتم تبرير ذلك بأنها شأن داخلي واحترام القيم المحلية ومشاعر الناس وغيرها من السخافات. وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار بجملة فريدريك إنجلز الشهيرة في تقييم المجتمعات، أن معيار تحرر المرأة هو معيار تحرر المجتمع، فليس هناك مجتمع يتمتع بالحرية في منطقتنا، وثقافة المجتمع هي انعكاس لثقافة الطبقة الحاكمة كما يعلمنا ماركس.
إن تعالي النفس الذكوري المقيت والمثير للاشمئزاز والدافع للتقيؤ إزاء حملات التهجم والشتائم على النساء على صفحات التواصل الاجتماعي، وخاصة عندما ترتفع أصوات نسوية ضد الظلم الجنسي، أو ضد حادثة عنف ضحيتها النساء، لا يمكن تحليله وفق مقولات التخلف التي لن تتعدى مقولات أخلاقية ولا تصل بنا إلى أي مكان، إنما هي حملات منظمة وواعية تجري على قدم وساق بجيوش حقيقية قبل أن تكون إلكترونية، للحفاظ على امتيازات النظام الذكوري. اُنظر إلى مقال في موقع جمار (اليمين والمانسويفير العراقيان -وحدة ضد النساء– بلسم مصطفى وريم عبد).
وكلما اشتد ساعد الحركة التحررية للنساء، ازدادت مقاومة النظام الذكوري وشراسته. فكما قاوم النظام الإقطاعي بشراسة ولادة النظام البرجوازي المدني ومخاضه، الذي كان يقوض امتيازاته من الأراضي والفلاحين الأقنان وسلبه الامتيازات المعنوية، حيث دحضت كل خرافات الكنيسة وقوضت سلطتها التي كانت تحمي النظام الإقطاعي، يقاوم اليوم النظام الذكوري بكل ما أوتي من شراسة لفرض مقولاته، فنجد أن من يتقدم المدافعين عن هذا النظام هم رجال الدين، فنراهم مرة يتحدثون لنا عن فساد الغرب وقيمه، وأخرى عن إصدار الدولة أو الحكومات للقوانين تحت عنوان الحفاظ على الأخلاق والآداب وما لا يتعارض مع تقاليد المجتمع وعلى المرأة مجالسة البيت، وعدم جواز منافستها للرجال في سوق العمل.
كما أن هناك قوانين تسلب الأمومة عندما تطلب المرأة الطلاق أو الانفصال، كي تكون دائما أسيرة الرجل الزوج ومطيعة له حتى لا تخسر أمومتها أو أطفالها. إن دونية مكانة المرأة هي مسألة سياسية بالدرجة الأولى، ولا تختلف هذه المكانة بين بلدان العالم سوى بالدرجات.
وفي منطقتنا يحاول هذا النظام البرجوازي العمل على مستويين لإخفاء ظاهرة دونية مكانة المرأة، الأول السعي للتغطية على وجهه القبيح أو تجميل ذلك الوجه عبر تأسيس منظمات تسمى بالمجتمع المدني بالترويج لورش عمل ضد العنف الأسري وتعليم الخياطة والحياكة والتطريز التي عفا عليها الزمن، والثاني قولبة نضالات الحركة التحررية ونزع شرارتها الثورية.
التحرش الجنسي بشكله اللفظي أو الجسدي أو المعنوي هو أيضا إحدى الممارسات الاجتماعية الفعالة للإبقاء على النظام الذكوري للحيلولة دون الإطاحة به. بيد أن التحرش الجنسي قبل أن يضع ثقله في الممارسة الاجتماعية، كان فعلا سياسيا ممنهجا ومدروسا وضعته الجماعات الإسلامية وتحديدا الإخوان المسلمون في صلب أولوياتها العملية خلال ثورة يناير في مصر التي اندلعت شرارتها في 2011. وعلى الرغم من حديثنا عنه في مناسبة سابقة، إلا أن ما يهمنا هنا هو توضيح هذه السياسة بشكل أكثر تفصيلا بما يدعم ركائز النظام الذكوري.
الآراء المذكورة في المادة أعلاه تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المنصة النسوية السورية