قوة اللغة في تشكيل الوعي الجمعي – نظرة تاريخية حول جريمة تشويه الأعضاء التناسلية للفتيات

شيماء طنطاوي | براح آمن

فبراير 29, 2024 admin 

0 Comment

مساحة آمنةمقالات

كتبت/ شيماء طنطاوى

طهارة … ختان … تشويه\ قطع الأعضاء التناسلية\ الجنسية للنساء والفتيات.

اللغة تمتلك طابعها الخاص في تشكيل الوعي الجمعي للشعوب، وتلعب اللغة العربية وتحديداً اللهجة المصرية دوراً محورياً في حياة وثقافة الشعب، وحيث أن اللغة هي الطريقة الأولى للتواصل بين الأفراد والجماعات، في هذا المقال أردت  أن أضع أمامنا جميعاً تلك الافتراضات والأسئلة حول تأثيرات اللغة والمصطلحات على تشكيل الوعي الجمعي للمجتمع المصري فيما يتعلق بقضية شديدة الحساسية وهي ” تشويه\ قطع الأعضاء الجنسية\ التناسلية للنساء والفتيات” فيما يُسمى حالياً بـ (ختان الإناث). حيث أن المصطلحات المستخدمة لمناقشة هذه الممارسة لها تأثيرات عميقة على كيفية النظر إلى هذه القضية داخل المجتمع المصري.

دلالة مصطلح ” تشويه\ قطع الأعضاء التناسلية الجنسية للفتيات\ النساء”:

(تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية أو قطع الأعضاء التناسلية الأنثوية) (بالإنجليزية: Female Genital Mutilation FGM – Female Genital Cutting FGC) هو عادة قطع وتشويه الأعضاء التناسلية للفتيات القاصرات. وتمارس هذه الجريمة ضد الفتيات منذ أكثر من ألف سنة وتنتشر في عدة بلدان أفريقية وشرق أوسطية، وبعض بلدان آسيا وأمريكا اللاتينية. ويُطلق على الختان شعبيًا في بعض الدول تسمية “الطهارة” في اشارة الى أن ممارسة هذه الجريمة تجعل من الفتاة المختونة طاهرة وعفيفة.

يٌفضل العديد من الأشخاص استخدام مصطلح “تشويه\ قطع” عن استخدام مصطلح “ختان الإناث”، ويٌفضل آخرون استخدام ألفاظ مختلفة، حيث يرى البعض أن استخدام مصطلح “تشويه” ذات دلالات سلبية على نفسيات الناجيات\ الضحايا لتلك الجريمة. ولتفكيك مصطلح “ختان الإناث في مقابل قطع\ تشويه” هناك العديد من الأطروحات التي يُمكننا مناقشتها. مصطلح ختان في المعجم اللغوي يُشير إلى: ختان: (مصطلحات) بكسر الخاء، من ختن يختن، والختان هو قطع القلفة (رأس القضيب)، وقد يطلق الختان على نفس الموضع الذي يقطع، ومنه قولهم إذا التقى الختانان وجب الغسل والمهر. فا مصطلح الختان هو لغوياً يتم استخدامه وتعريفه بقطع ” القلفة” عند الذكور، مما يجعله مصطلح غير منضبط لغوياً لاستخدامه في حالة الممارسة المجرمة التي تقع في حق النساء. أما فيما يخص المقطع الثاني من المصطلح وهو “الإناث” فهو ترسيخ لكون من يقع في حقه تلك الجريمة تقع بحقهنّ كونهنّ يمتلكنّ الجنس المؤنث، مما يٌنفي عنهنّ الصفة الإنسانية. يتركنا مصطلح ” ختان الإناث” فا يتكون المصطلح من كلمتان إحداهما تٌشير إلى مصطلح لديه طابع مجتمعي ايجابي ” الختان”، والكلمة الثانية تٌشير إلى تشيئ النساء والفتيات اللواتي تنتهي حياتهنّ بسبب تلك الجريمة وتحبسهنّ داخل الجنس البيولوجي لهنّ.

أما فيما يخص مصطلح “تشويه\ قطع الأعضاء الجنسية التناسلية للنساء والفتيات” فالبرغم من قسوة المصطلح ولكنه يٌعبر بوصف دقيق عما يحدث للنساء والفتيات من جريمة، يٌخرجهنّ من طور الجنس البيولوجي ويُضفي عليهنّ الطابع الإنساني، ويوضح حقيقة أن ما يقع بحقهنّ من جريمة هي تحدث بسبب نوعهنّ الاجتماعي، بسبب كونهنّ نساء وفتيات، نساء وفتيات تنتهي حياتهنّ أو يتعرضنّ لجريمة تؤثر على صحتهنّ الجسدية، الجنسية والنفسية على مدار العديد من السنوات وربما على مدار حياتهنّ.

  يٌعد ” تشويه\ قطع الأعضاء التناسلية للنساء والفتيات”  انتهاكاً واضحاً لحقوق الإنسان، وشكل من أشكال العنف الواقع على النساء والفتيات في المجالين الخاص والعام، حيث انه يشمل بداخله أشكال متعددة من العنف ومنها “العنف الجنسي – العنف الجسدي – العنف النفسي، والذي يصل في بعض الأحيان إلى القتل”. كما أنه يٌعد عنف في المجالين الخاص والعام، حيث يشترك في فعله فاعلين من المجال الخاص متمثلين في “الأهل” في أخذ قرار إجراء تلك الممارسة المٌجرمة على أطفالهنّ، وفاعلين من المجال العام متمثلين في الأطباء\ الطبيبات او غيرهم\نّ من الأشخاص المجرمين الذين يقومون بتنفيذ تلك الممارسة على الفتيات.

وتٌشير الأمم المتحدة أن هذه الجريمة أيضًا تنتهك “حقوق الفرد في الصحة والأمن والسلامة الجسدية والحق في السلامة من التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، والحق في العيش عندما تؤدي هذه الممارسة إلى الوفاة”. اعتمدت الجمعية العامة قرارًا سنة 2012، الذي دعت فيه الدول ومنظومة الأمم المتحدة والمجتمع المدني إلى الاستمرار في الاحتفال بيوم 6 شباط/فبراير بوصفه اليوم الدولي لعدم التسامح إزاء تشويه الأعضاء التناسلية للإناث. ويهدف هذا اليوم إلى رفع الوعي بهذه الممارسة واتخاذ إجراءات ملموسة للحد منها. وفي كانون الأول/ديسمبر 2014، اعتمدت الجمعية العامة قرارها 150/69 A/RE9/67/146 الذي دعت إلى تكثيف الجهود للقضاء على ممارسة تشويه الأعضاء التناسلية للإناث، ودعت الدول الأعضاء إلى تطوير خطط متكاملة وتنفيذها، على أن تشتمل على تدريب العاملات والعاملين في المجال الصحي والمتخصصات والمختصين الاجتماعيين. وأعترف القرار بالحاجة إلى تكثيف الجهود وإيلاء ما يستحق من مكانة وأهمية في جدول أعمال التنمية لما بعد عام 2015.

نظرة تاريخية:

هناك مغالطات تاريخية كبيرة فيما يخص جريمة “تشويه\ قطع الأعضاء التناسلية للنساء” في مصر، حيث أن إحدى الأكاذيب الكبرى المنتشرة تُشير إلى أن تلك الجريمة فرعونية الأصل، في حين أنه عند البحث والتنقيب عن وجود دلائل تاريخية فرعونية حول تلك الجريمة لا نجد أية برديات أو رسومات جدارية تصور تلك الجريمة، ولا نجد إلا جداريات مصورة عن ختان “الذكور”. تلك الممارسة الوحشية انتقلت إلى مصر من بعض الدول الافريقية التي في الأغلب تخلصت بنسبة كبيرة من تلك الممارسة الآن.

وفي دراسة تاريخية  باسم “ختان  الإناث  وتجارة  الرقيق” لوسيا  كورنو، إليانا لا فيرارا، أليساندرا فوينا * الصادرة بتاريخ ديسمبر 2020، تُركز الدراسة على ممارسة جريمة ختان الإناث والأصول التاريخية لتلك الممارسة ويأتي في ملخص الدراسة: “نحن نحقق في الأصول  التاريخية  لختان الإناث،  وهي ممارسة ضارة منتشرة في جميع أنحاء أفريقيا. نحن نختبر  الفرضية –  المدعومة بمصادر تاريخية – بأن تشويه الأعضاء التناسلية للإناث  كان  مرتبطًا بطريق  تجارة الرقيق في البحر الأحمر، حيث  تم بيع النساء  كمحظيات في الشرق  الأوسط وتم استخدام الختان التخييطي  لضمان العفة. نحن نفترض  أن  التعرض المختلف  للمجموعات العرقية  لمسار  البحر الأحمر يحدد التبني التفاضلي لهذه  الممارسة. الجمع بين البيانات على المستوى الفردي من 28 دولة أفريقية مع بيانات  تاريخية جديدة عن شحنات العبيد حسب البلد والجماعة العرقية  وطرق التجارة من 1400 إلى 1900.  نجد أن النساء المنتميات إلى مجموعات  عرقية  تعرض  أسلافهنّ لطريق  البحر الأحمر أكثر عرضة للختان التخييطي أو الختان اليوم   وأكثر تفضيلاً  لمواصلة  هذه الممارسة.  وتتشابه الآثار المقدرة إلى حد كبير عندما  يتم تصدير العبيد عن طريق المسافة  إلى ساحل شمال شرق أفريقيا. أخيرًا،  يكون التأثير أقل بالنسبة للمجموعات العرقية التي سمحت تاريخيًا بحرية ممارسة الجنس قبل الزواج – وهو مؤشر على انخفاض  الطلب على العفة”.

تٌنقب الدراسة في الأسباب والأصول التاريخية لممارسة “تشويه الأعضاء التناسلية للفتيات والنساء” وتذكر أن تلك الأصول التاريخية تعود إلى تجارة الرقيق، وأن تلك  الممارسة كانت منتشرة في المناطق الجغرافية المشهورة بالتجارة عامةً وتجارة الرقيق، حيث أن تلك الممارسة كانت منتشرة بين الفتيات والنساء اللواتي يتم بيعهنّ في تلك المناطق، وتذكر الدراسة:

فرضيتنا العملية،  المدعومة بالوثائق  والتعليقات التاريخية، هي أن ختان الإناث كان  مرتبطًا بطريق  البحر  الأحمر   لتجارة الرقيق الأفريقية. على طول هذا الطريق، تم  بيع النساء كمحظيات  في الشرق الأوسط  وتم استخدام الختان التخييطي  لضمان العفة  وتجنب الحمل (دوس سانتوس، 1609 ؛ براون 1799 ؛ بوركهاردت 1819)”.

وعلى مر التاريخ مرت تلك الممارسة بالعديد من المراحل على سياق التجريم والانتشار، وكذلك على سياق المصطلحات المستخدمة واللغة الشعبية، حيث كانت العبارات المستخدمة لوصف هذه الممارسة تختلف على مر الأزمنة، فكان من المعتاد منذ عقود استخدام لفظ ” طهارة البنات” كتعبير ايجابي يستخدمه مٌمارِسوا تلك الجريمة، لإضفاء طابع إيجابي حول تلك الممارسة العنيفة، فيدّعون أنها ممارسة يتم عملها من أجل الطهارة والعفة والمحافظة على النظافة الشخصية للفتيات. استمرت تلك الإدعاءات لفترة طويلة من الزمن في التبرير لتلك الجريمة الوحشية التي راحت ضحيتها العديد من الفتيات. 

خمسينيات القرن العشرين:  ماري أسعد وعزيزة حسين .. نسويات ناضلنّ على مستوى اللغة وتغيير الوعي.

كانت ماري أسعد خبيرة في التنمية الاجتماعية وأستاذة أنثروبولوجيا في الجامعة الأمريكية، و تٌعد من أوائل المناهضات لختان الإناث في مصر. بدأت أبحاثها عن ختان الإناث في الخمسينيات من القرن الماضي وكانت أول من ركزت أبحاثها على مصر وشمال أفريقيا. اشتركت في تدشين المؤتمر الدولي للتنمية والسكان مع نهاد طوبية وعزيزة حسين وعفاف جاد الله وداليا الطايب، ومركز لتوثيق الأبحاث والمعلومات الخاصة بالختان، والعمل مع مشايخ وقساوسة في المكافحة.

ومن هنا بدأ النضال اللغوي لتغيير لفظ الطهارة إلى ” ختان الإناث” في محاولة لتفكيك الصورة الإيجابية حول تلك الجريمة التي يروح ضحيتها حيواة العديد من الفتيات، وتؤثر سلبياً على حياة العديد من النساء في مصر. أتت تلك الجهود بثمارها من الجانب القانوني حيث أصدر وزير الصحة القرار رقم 74 في يونيو 1959 بحظر إجراء ختان الإناث في مستشفيات ووحدات وزارة الصحة.

نوال السعداوي – محطة مهمة في تاريخ النضال ضد ” تشويه الأعضاء التناسلية\ الجنية للنساء والفتيات في مصر”

في السبعينيات من القرن العشرين بدأ نضال جديد مع الكاتبة والطبيبة نوال السعداوي والتي خاضت معركة عنيفة من النضال ضد جريمة “تشويه الأعضاء التناسلية للنساء” حيث نشرت عام 1972 كتابها الشهير “المراة والجنس” والذي حكت فيه تجربتها كطبيبة مع قضية الختان وتأثيرها على الفتيات. ظل هذا الكتاب بمثابة شعلة النور ومفتاح للعديد من الإجابات المجهولة من قبل العديد من الفتيات والنساء حول طبيعة علاقتهنّ بأجسادهنّ، وبشكل شخصي كان هذا الكتاب هو أول من أجاب عن أسئلتي حول ” جريمة تشويه الأعضاء التناسلية ” التي مررت بها ومدى تأثيرها عليّ، وكانت قرأته وفهمه هي بداية الطريق نحو طريق النسوية.

اعتاد المجتمع بعد العديد من حملات التوعية من قبل الدولة، والعديد من النضالات من قبل نسويات منفردات، ومؤسسات نسوية مصرية، على تغيير لفظ ” طهارة ” إلى مصطلح أقل إيجابية وهو ” ختان الإناث” وانتشرت في التسعينات العديد من اليافطات والحملات الإعلامية لمناهضة تلك الجريمة، كما انتشرت مقاومة من نوع آخر وهي ” تطبيب الختان”، حيث استخدم العديد من الأفراد إمكانية القيام بتلك الجريمة على أيدي أطباء للتهوين من نتائجها المميتة، في حين ان الدولة كانت قد قامت بالتجريم من قبل قرار وزارة الصحة ولكن لم يكن لهذا المنع التأثير الأكبر حيث أن الوعي المجتمعي لم يكن ضد الجريمة بعد.

سنوات من النضال .. ادت إلى فروق في الاحصائيات والنسب، ولكن لم تٌنقذ الأرواح ولن تٌعوض الناجيات:

بدأ تجريم ختان الإناث رسميًا في عام 2008 عندما أقر مجلس الشعب المصري (مجلس النواب حاليًا) قانوناً لعقاب الأشخاص الذين يقومون بتلك الجريمة بالغرامة وبالسجن الذي يتراوح بين ثلاثة أشهر وسنتين.

وفي 2016 عُدل القانون وعاد لتغليظ العقوبة ليتراوح بالسجن بين خمس وسبع سنوات للأطباء، وبين سنة وثلاث سنوات لمن يطلب ختان فتاة، لكنه أبقى على المادة التي تبيح ذلك في حالة المبرر الطبي.

ثم جاء التعديل الأخير: نصت المادة 171 من قانون العقوبات المصري رقم 58 لسنة 1937 المعدل بالقانون رقم 10 لسنة 2021، على أن يعاقب بالسجن كل من طلب ختان أنثى وتم ختانها بناء على طلبه على النحو المنصوص عليه بالمادة (242) مكررا من هذا القانون، كما يعاقب بالحبس كل من روج أو شجع أو دعا بإحدى الطرق المبينة بالمادة 171 من هذا القانون لارتكاب جريمة ختان أنثى ولو لم يترتب على فعله أثر . كما نصت المادة رقم 242 مكررا من قانون العقوبات المصري رقم 58 لسنة 1937 المعدل بالقانون رقم 10 لسنة 2021 والتي نصت على: «يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات كل من أجرى ختانا لأنثى بإزالة جزء من أعضائها التناسلية الخارجية بشكل جزئى أو تام أو ألحق إصابات بتلك الأعضاء، فإذا نشأ عن ذلك الفعل عاهة مستديمة تكون العقوبة السجن المشدد مدة لا تقل عن سبع سنوات، أما إذا أفضى الفعل إلى الموت تكون العقوبة السجن المشدد لمدة لا تقل عن عشر سنوات».

وتكون العقوبة السجن المشدد لمدة لا تقل عن خمس سنوات إذا كان من أجرى الختان المشار إليه بالفقرة السابقة طبيبا أو مزاولا لمهنة التمريض، فإذا نشأ عن جريمته عاهة مستديمة تكون العقوبة السجن المشدد لا يقل عن عشر سنوات، أما اذا أفضى الفعل إلى الموت فتكون العقوبة السجن المشدد لا تقل عن خمس عشرة سنة ولا تزيد على عشرين سنة. كما تقضى المحكمة عن العقوبات المتقدمة بحرمان مرتكبها من الأطباء ومزاولي مهنة التمريض من ممارسة المهنة مدة لا تقل عن 3 سنوات ولا تزيد على 5 سنوات تبدأ من انتهاء مدة تنفيذ العقوبة مع غلق المنشأة الخاصة التي أجرى فيها الختان مدة تنفيذ العقوبة.

تراجع بطيء في نسب الممارسة على مدار عقود

أعلنت وزارة الصحة المصرية من خلال المجلس القومي للسكان في عام 2018  أن نسبة ممارسة ختان الإناث في مصر انخفضت من 74%  إلى 61% في الفئة العمرية من 15 – 17 سنة، في الفترة الزمنية منذ 2008  حتى 2014. ويٌرجح أن تراجع النسبة بسبب حملات التوعية وجهود المجتمع المدني في نشر الوعي حول مخاطر جريمة “تشويه الأعضاء التناسلية\ الجنسية للنساء”. أي كانت نسبة الختان تراجعت فقط بنسبة 13%، مما يُشير إلى أن معدل التراجع يسير ببطء مقارنة بما يتم بذله من جهود على المستوى المحلي من الدولة وعلى مستوى عمل المجتمع المدني. وفي تلك الفترة الزمنية تبنت الدولة العديد من الحملات الإعلامية على التلفزيون الوطني، وفي الشوارع ، نشرت ورسخت لمصطلح ” الختان” بدلاً من مصطلح ” الطهارة” على مستوى جماهيري واسع، تلك الحملات الإعلانية انتقدت تلك الممارسة المجرمة وتأثيراتها العنيفة على الفتيات، مما أدى إلى تغييرات مجتمعية وثقافية تجاه تلك الممارسة.

التأثير الإعلامي والثقافة الشعبية:

تلعب وسائل الإعلام دوراً محورياً في نشر المعلومات وتشكيل الرأي العام. يؤثر اختيار اللغة في التقارير الإعلامية والمقالات والمناقشات بشكل كبير على كيفية إدراك عامة السكان لختان الإناث. يمكن للغة الغير حساسة تجاه العنف المبني على النوع الاجتماعي أن تديم الصور النمطية وتساهم في تطبيع هذه الممارسة. وعلى العكس من ذلك، فإن استخدام مصطلحات دقيقة انتقادية يمكن أن يزيد الوعي حول العواقب الضارة لجريمة تشويه\ قطع الأعضاء التناسلية\ الجنسية.

للثقافة الشعبية والاجتماعية دور محوري في استمرار ممارسة تلك الجريمة على النساء والفتيات، حيث أن الثقافة الإجتماعية مبنية بالأساس على أن الإناث هنّ في مرتبة أقل من الذكور، ونرى هذا التمييز من خلال العديد من الشواهد الاجتماعية سواء كانت شواهد لغوية مثل الأمثال والجمل المنتشرة في الثقافة المصرية منذ عقود ومنها على سبيل المثال لا الحصر (يقولوا جابت واد ومات ولا يقولو خلفتها بنات)، وهنا يرى المجتمع أن النساء اللواتي يلدنّ فتيات فقط هنّ نساء ناقصات بشكل ما، وهكذا نجد العديد من الأمثال التي لا تٌرسخ فقط للتمييز الواقع على الإناث، ولكن قد تصل إلى حد التحريض ضدهنّ. 

ومن ناحية أخرى نرى تلك الشواهد في أعمال تمييزية أصيلة، تٌشجع وتُرسخ للقيم التي ترى أن أجساد النساء هي حق مكتسب لرجال عائلتها بالأساس، وأن التحكم في تلك الأجساد الأنثوية هي مهمة الذكور الأولى، حيث أنه كلما زادت نسبة تحكم الرجل في أجساد نساء عائلته كلما زادت رجوليته. ومن تلك الأفعال التي تبدأ منذ سن مٌبكرة ” جريمة تشويه الأعضاء التناسلية\ الجنسية للفتيات”، وتستمر تلك الأفعال في تصرفات صغيرة وكبيرة، بدايةً من ترسيخ قيم أن الأخ الذكر هو المسؤول والحامي لإخوته الإناث، وتلك هي مهمته الوحيدة في حياته، وأن الفتيات مهمتهم الحفاظ على راحة هذا الأخ، وأفعال أخرى مثل أن الذكر له النصيب الأكبر من الأكل أو من البروتين أثناء الوجبات لأن جسده يحتاج أكثر من الأنثى، وصولاً إلى توزيع الميراث الذي قد يصل أحياناً حد منع النساء والفتيات منه.

نرى في الثقافة المجتمعية العديد من الشواهد اللفظية والفعلية التي تُشير بوضوح إلى التمييز والعنف المبني على النوع الاجتماعي، وأول تلك الشواهد وما نود التركيز عليه هنا، هي جريمة “تشويه الأعضاء التناسلية\ الجنسية للفتيات” حيث أن تلك الجريمة ليست فقط جريمة عنف جسدي، حيث أن توابعها قد تصل إلى حد الموت، ولكنها ايضاً جريمة عنف جنسي، حيث أن آثارها على المدى الطويل تحرم النساء من حق الاستمتاع الجنسي بشكل طبيعي، وتجعلهنّ يواجهنّ صعوبات في الوصول للمتعة الجنسية، ويواجهنّ تحديات والآلام فيما يتعلق بجميع الأمور الجنسية والإنجابية الأخرى بداية من الدورة الشهرية مروراً بالعلاقة الجنسية وصولاً إلى الإنجاب.

اللغة والتأثير على النشاط والتشريعات:

تٌعتبر اللغة المستخدمة في النشاط والخطاب القانوني أمرًا بالغ الأهمية في التأثير على تغيير السياسات والمواقف المجتمعية تجاه تلك الجريمة. غالبًا ما يستخدم النشطاء الذين يقومون بحملات ضد هذه الممارسة مصطلحات مثل “تشويه الأعضاء التناسلية للنساء” للفت الانتباه إلى خطورتها والدعوة إلى اتخاذ تدابير قانونية للقضاء عليها. وتلعب المبادرات والتشريعات الحكومية أيضًا دورًا، ويمكن للمصطلحات المختارة في الوثائق الرسمية أن تؤثر على فهم الجمهور ودعم تدابير مكافحة تشويه الأعضاء التناسلية للنساء. نود أن نُشير إلى مصطلحات قانونية ربما يُساعد  تطبيقها في تقليل نسبة “جريمة تشويه الأعضاء التناسلية\ الجنسية” الواقعة على الفتيات في مصر، ومن تلك المصطلحات ” العدالة التعويضية”، حيث أن التشريعات والقوانين أخذت مساراً قوياً ومتقدماً في فرض العقوبات على المجرمين\ات الذين يقومون بتلك الجريمة، ولكن تلك العقوبات وتشديدها لم تكن كافية لردع المجرمين، وتغيير الوعي الجمعي للشعب حول رؤيته لتلك الجريمة. وربما طرح مصطلح مثل العدالة التعويضية وتطبيقها يٌساعد في تغيير الوعي الجمعي، ويجعل الطبقات الاجتماعية المختلفة ترى أن هؤلاء النساء والفتيات الناجيات من الختان لهنّ الحق في امتلاك أجسادهنّ والاستمتاع بحياتهنّ. 

يُشير مصطلح العدالة التعويضية إلى رؤية النساء والفتيات الناجيات من العنف أولاً، والتركيز على مساعدتهنّ، وتخصيص الموارد والدعم لهنّ، وليس فقط التركيز على الجانب العقابي فقط. فيما يخص جريمة “تشويه الأعضاء التناسلية للفتيات” إلى توفير دعم طبي، جنسي، ونفسي للنساء والفتيات الناجيات من تلك الجريمة، وكمثال على هذا الإجراء يوجد في العالم مستشفيات لإعادة الترميم من تلك الجريمة، وتقوم الدول بمساعدة المجتمع المدني بتوفير خدمات إعادة الترميم الجسدي، الجنسي، والنفسي لمساعدة النساء والفتيات على التعافي من آثار تلك الجريمة، بشكل مجاني. حيث يٌساعد مثل هذا التطبيق للعدالة التعويضية النساء أنفسهنّ ويٌخرجهنّ من دور الضحية إلى الناجية، يُعيد إليهنّ الثقة بأنفسهنّ، ويُرسخ داخل الوعي الجمعي أن هذا الحق في الجسد الذي تم سلبه، يٌمكن أن يتم انتزاعه مرة أخرى وإعطائه لصاحبات الحق مرة أخرى. 

خاتمة:

اللغة هي أداة قوية لتشكيل الوعي الجماعي والمواقف المجتمعية تجاه جريمة تشويه الأعضاء التناسلية للنساء في مصر. إن المصطلحات المستخدمة في المناقشات والتمثيل الإعلامي والخطاب القانوني تؤثر على التصورات والمبررات، وفي نهاية المطاف تؤدي إلى  نجاح الجهود المبذولة للقضاء على هذه الممارسة الضارة. ومع تزايد الوعي، فإن تعزيز الحوار المفتوح والمستنير باستخدام لغة دقيقة ونقدية سيكون أمرًا بالغ الأهمية في تحدي الأعراف الثقافية العميقة الجذور والعمل على القضاء على ختان الإناث في مصر، كما أن تبني الدولة لتلك المصطلحات الدقيقة والمٌعبرة على نطاق جماهيري واسع، واستخدام الوسائل الإعلامية الرسمية من تلفزيون، راديو … إلخ سوف يُساعد في زيادة الوعي بشكل أوسع، أسرع وأكثر تأثيراً، هذا بجانب جهود منظمات المجتمع المدني ووصولها للفئات المستهدفة.

شاركنَ المنشور