نشرت هذه المادة على موقع هيئة الأمم المتحدة للمرأة بتاريخ 24 أكتوبر 2022
لأكثر من عقد، أودى الصراع الذي طال أمده في سوريا بحياة عدد لا يحصى من الأرواح، وشرد الملايين داخل البلاد وخارجها، وترك معظم بنيتها التحتية في حالة يرثى لها. تعثرت جهود الوساطة الدولية الرامية إلى إنهاء الصراع إلى حد كبير، ويُعزى ذلك جزئيًا إلى تجاهل الوسطاء الرسميين للديناميكيات المحلية التي تساعد في تأجيج الأزمة. ويجعل ذلك من جهود الوساطة المحلية التي تسعى إلى فض النزاعات بين المجتمعات وداخلها ومعالجة الشواغل المحلية حيوية لتعزيز جهود السلام الرسمية التي يقودها الفاعلون الوطنيون.
لعبت النساء السوريات دوراً فعالاً في التوسط في مختلف النزاعات التي أثرت على مجتمعاتهن. وتعمل معظم النساء السوريات الوسيطات بصفتهن “وسطيات من الداخل”، أي أن لديهن نوع من الصلة بالنزاع ويُنظر إليهن على أنهن جديرات بالثقة وذوات مصداقية من قبل الأطراف المتنازعة. و”كوسيطات من الداخل”، تُظهر النساء نقطتين قويتين ثابتتين: قدرتهن على بناء العلاقات أو الاستفادة منها، وامتلاكهن للمعرفة التفصيلية عن النزاع وأطرافه.
وتُظهر الأبحاث من المنطقة أن النزاع غالبًا ما يغير الأدوار الاجتماعية المنسوبة للنوع الاجتماعي، ما يمكّن النساء من لعب دور أكثر وضوحًا في عمليات الوساطة المحلية. وهذا هو الحال بشكل خاص في سوريا، حيث أدت القيود المفروضة على حركة الرجال وخطر الاعتقال إلى خلق فرص للنساء للمشاركة في مفاوضات حول قضايا حاسمة تتراوح من تقديم الخدمات إلى وقف إطلاق النار.
التفاوض على وقف إطلاق النار والتوسط في إطلاق سراح المعتقلين
شاركت النساء في سوريا في عدد من جهود الوساطة المتعلقة بالحصار ووقف إطلاق النار. فعلى سبيل المثال، في وقت مبكر من الحرب الأهلية، حاصرت القوات الحكومية منطقة تسمى بالزبداني –واقعة شمال غربي دمشق تحت سيطرة قوات المعارضة. وطالبت الحكومة الرجال بتسليم أسلحتهم والاستسلام، مما يعني أنه كان يُسمح للنساء فقط بالتحرك بأمان عبر خطوط السيطرة. وعلى الرغم من أن منطقة الزبداني كانت مجالاً كان من المتوقع أن تركز فيه النساء على مسؤولياتهن داخل المنزل، إلا أن القيود والمخاطر التي كانت تواجه الرجال أدت إلى تغيير هذه الديناميات وجعلت من المقبول، بل ومن الضروري، إشراك النساء في المفاوضات مع القوات الحكومية.
اجتمعت مجموعة من النساء في الزبداني وشرعن في عملية وساطة مع القوات المحاصَرة من أجل التفاوض لإنهاء الحصار وكذلك وقف محتمل لإطلاق النار. وقبل الحصار، لم تكن تلك النساء شخصيات بارزة في المجتمع، ولكن”شاركت معظم هؤلاء النساء لأن أزواجهن كانوا متورطين مع قوات المعارضة وكانوا مطلوبين من قبل الحكومة.” يقول سامح عوض، خبير بناء السلام المطلع على القضية. “وكانت النساء أنفسهن في الغالب ربات بيوت ولم يكن لهن أي دور رسمي في المجتمع، لكنهن اكتسبن أهميتهن لرغبتهن في حماية أزواجهن.”
وتمكنت النساء من التفاوض على وقف إطلاق النار والذي نجح في مراحله الأولى، لكن الاتفاق انهار لاحقًا بسبب السياق السياسي المتغير. ومع ذلك، ولفترة من الزمن، “نجحت النساء في ضمان حماية المدنيين وإجلائهم”، كما أوضح عوض*.
غالبًا ما تبني الوسيطات تحالفات غير رسمية مع نساء أخريات كإستراتيجية لتقوية صوتهن في المفاوضات. فعلى سبيل المثال، بعد انتشار إشاعة تفيد بأن الفصائل المسلحة كانت تخطط لقتل مجموعة من المعتقلين في إدلب بسوريا، عملت مجموعة من المعلمات على إقناع مجموعة أوسع من النساء، بما في ذلك أمهات المعتقلين، بالذهاب إلى مقر قائد الكتيبة. وانتهى اللقاء بأن أخبرهن زعيم الفصيل إنه سيتحدث مع المجلس العسكري، وبعد شهر تم إطلاق سراح المعتقلين في إطار صفقة تبادل.
التعامل مع المخاطر الأمنية للوصول إلى الممتلكات والخدمات
لدى العديد من الرجال السوريين في سن التجنيد مخاوف من تجنيدهم عند عودتهم إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة. ونتيجة لذلك، تزيد أرجحية عودة النساء عن الرجال، وغالبًا ما يعود النساء والأطفال أولاً لتسوية الأمور الخاصة بالسكن والأراضي والممتلكات والوثائق المدنية، وكذلك لتقييم الظروف والخدمات المتاحة في منطقة العودة المقصودة. وعند العودة، غالبًا ما يتعين عليهن التفاوض بشأن مطالبات الملكية المعقدة، فضلاً عن الوصول إلى الخدمات الأساسية.
قادت النساء السوريات أيضًا جهود الوساطة مع القوات الحكومية لمعالجة القضايا الأمنية وتقديم الخدمات في المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة سابقًا. ويوضح عوض* “أن الحكومة أصرت على أن الرجال بحاجة إلى إكمال الخدمة العسكرية، مما جعل العديد من الشباب يخشون الظهور في المجال العام خوفًا من الاعتقال. لذلك شاركت النساء في الخروج واستكشاف إلى أي مدى كانت المناقشات مع السلطات الجديدة في المنطقة ممكنة. وخلال هذه المفاوضات، ناقشن مسألة التعافي المبكر لمناطقهن.”
ومن الأمثلة على هذا النوع من الوساطة ما حدث في منطقة الكسوة الواقعة جنوب دمشق. فبعد إعادة الكسوة إلى سيطرة الحكومة، جاءت النساء للمشاركة في الوساطة بسرية تامة مع السلطات المحلية. ومثلما حدث في منطقة الزبداني، لم يتمكن العديد من الرجال من الخروج من منازلهم دون المخاطرة بالاعتقال، مما دفع النساء إلى لعب دور المفاوض: “بالنيابة عن مجتمعاتهن المحلية، تواصلت النساء مع الجهات الفاعلة السياسية لإنشاء نقط دخول للحصول على الخدمات، ثم اضطلعن بمهمة التفاوض على تقديم الخدمات، وشراء المحاصيل، والأسمدة لاستخدامها خلال موسم الحصاد التالي، وفتح المدرسة المحلية، وإصلاح مستوصف الأدوية المحلي”. يقول عوض.
وتكتسي هذه الجهود التي بذلتها النساء أهمية خاصة لأن المناطق مثل الكسوة لم تتلق في البداية سوى القليل من الدعم الخارجي. وكانت المساعدات الإنسانية محدودة للغاية، ولم تكن هناك أية خدمات حكومية متاحة. وفي هذا السياق: “لعبت النساء دورًا مهمًّا في تطبيع الحياة في هذه المناطق –وكانت هذه مساحة خاصة بالمجتمع المدني ولم تكن فيها منظمات غير حكومية أو تمويل من المانحين. وقد ظهرت هذه الجهات الفاعلة بحكم الضرورة لأنهن أردن أن تبقى مجتمعاتهن على قيد الحياة”.
استعادة التماسك الاجتماعي:
بعد عدة سنوات من اندلاع الصراع، لاحظت “مبادرون”، منظمة مجتمع مدني تقودها النساء في دمشق، زيادة معدلات العنف في مناطق معينة نتيجة تصدُّع العلاقات الاجتماعية والشعور بالاستياء من النازحين الذين وصلوا إلى العاصمة. وللتصدي لممارسات العنف، شكّلت المنظمة لجانًا محلية مكونة من رجال ونساء من المجتمع المحلي، بما في ذلك قادة المجتمع المحلي (المخاتير)، وغيرهم من أفراد المجتمع المؤثرين (مثل المعلمين)، ونشطاء المجتمع المدني والسكان العاديين. فقاموا بخلق مساحات محايدة حيث يمكن للناس الالتقاء ومناقشة القضايا التي تؤثر على الأحياء التي يقطنون بها، وعملوا على بناء ثقتهم ومهاراتهم حتى يتمكنوا من اتخاذ خطوات لمعالجة قضايا النزاع.
وبعد مرور بعض الوقت، وسعت المنظمة عملها لتشمل مدينة طرطوس في غرب سوريا. فدخلت المنظمة في شراكة مع منظمة مجتمع مدني أخرى تقودها النساء وتتمتع بروابط مجتمعية وحضور قوي في المنطقة. وقد تغير نهج المنظمة الشريكة إلى حد ما:” لقد ركزن جهودهن على بعض الأحياء التي استقبلت معدلات هائلة من النازحين من المحافظات الأخرى بسبب الحرب، حيث كانت العلاقة بين النازحين والسكان المضيفين متوترة ومتصدعة. تقول فرح حسن*، عضوة في مبادرون. “وبسبب الحرب وتدفق النازحين، لم تكن هناك خدمات أو كانت الخدمات غير كافية. فحمّل الشباب المحليون النازحين المسؤولية عن الحرب، كونهم ينتمون إلى مناطق خاضعة لسيطرة المعارضة، ونفذوا هجمات عنيفة ضد النازحين في المخيمات المجاورة”.
قررت مديرة منظمة المجتمع المدني في طرطوس التصدي للعنف الممارس ضد النازحين، لأنه كان يزعزع الاستقرار في المنطقة. وبدأت بمبادرة تهدف إلى تحسين العلاقات بين المجتمع المضيف والنازحين ووقف الهجمات العنيفة ضد سكان المخيم.
“التقت بأفراد المجتمع المؤثرين والجهات الفاعلة في مجال الأعمال المحلية لإقناعهم بضرورة دمج مخيم النازحين ليكونوا جزءًا من المجتمع وحتى يتمكن النازحون من المشاركة في الاقتصاد المحلي”. تقول فرح. ” كما بدأت في عقد لقاءات اجتماعية دورية بين النساء النازحات والنساء من المجتمع المضيف حول مسائل مثل الطبخ، من أجل بناء الثقة بين الجانبين.”
ومن خلال هذه الأشكال اليومية من المفاوضات مع قادة المجتمعات المحلية، ومع الجهات الفاعلة في قطاع الأعمال، وبين النساء من النازحين والمجتمعات المضيفة، تغيرت المواقف ببطء. وأفادت التقارير أن الأحياء المستهدفة في طرطوس شهدت اختلاف ملحوظ في معاملة النازحين: فقد تراجعت المضايقات وممارسات العنف التي كان يتعرض لها النازحون من جانب أفراد المجتمع المحلي المضيف، وأصبح الأطفال أكثر قبولاً في المدارس، وزادت الفرص الاقتصادية المتاحة للنازحين.
هذه فقط بعض الأمثلة على كيفية توسط النساء السوريات لفض الصراعات واستعادة التماسك الاجتماعي في مجتمعاتهن. تمر جهود الوساطة الأخرى التي لا حصر لها مرور الكرام. ويعني إخفاء وتهميش جهود المرأة السورية في الوساطة أن عملها أقل توثيقًا وفهمًا، مما يشكل تحديًا لمن يرغب في دعمها. يُعد تكريم النساء السوريات على إنجازاتهن خطوة أولى مهمة نحو الاستفادة من إمكاناتهن في الوساطة لبناء سلام دائم وشامل في سوريا. للمزيد من المعلومات حول كيفية تعامل الوسيطات السوريات مع الأعراف الاجتماعية المعقدة والحساسيات السياسية والمخاطر الأمنية لفض النزاع ومعرفة أفضل السبل لدعمهن، يرجى الاضطلاع على تقريرنا الجديد.
*تم تغيير الأسماء لحماية خصوصية الأشخاص.