علياء أحمد | صدى الجنوب
“ماحدا مرتاح”، واحدة من أكثر العبارات تداولاً خلال نقاشات الأهل والأصدقاء واتصالاتهم. سواء كانوا مقيمين داخل سوريا، أو مشتيتن في المنافي. فالجميع يعاني، ويصارع تحدياته الخاصة المرتبطة بمكان وجوده وظروفه الشخصية. لكن على الرغم من تشارك معظم السوريين هموم الفقدان والتهجير والفقر، بعد أزمة أعقبت ثورة لم تكتمل فرحتها. إلا أن هموم النساء السوريات اللواتي عانين ومازلن من التمييز ضدهن في القوانين والمجتمع والدين تتضاعف. وأعباءهن تزداد في عالم يعج بالاضطرابات والعنف والتمييز. سواء كُنّ في أحضان الوطن، أو يعانقن الغربة في دول اللجوء.
لا يقتصر الأمر على متطلّبات الحياة اليومية وفرص العيش الكريم في ظروف بالغة الصعبة. فالمشكلة الأكبر غير المرئية، هي مواجهة تحديات نفسية وعاطفية جديدة وعميقة. ويزداد الأمر تعقيداً بتشابك الضغوطات المرتبطة بالصراع ونتائجه. مع حساسية أوضاع النساء بسبب جنسهنّ، وما يترتب عليه من تبعات تفرض عليهنّ أحكاماً وقيوداً جمّة.
نزوح العائلات وتهجيرها، الاختفاء القسري أو الاعتقال، والموت. كل هذا وغيره زاد بشكل غير مسبوق من عدد الأمهات الثكلى، الزوجات الأرامل، والحبيبات المتروكات وحيدات. بعد سقوط رجل في المعارك. أو تغييبه خطفاً أو اعتقالاً، أو سلوكه طريق الهجرة هرباً من مخاطر تتهدّده في مناطق النظام. أو سواه من سلطات الأمر الواقع، أو حتى طلباً للرزق. هكذا، وجدت البنات، الأخوات، الزوجات، وسواهنّ من نساء في جميع الأدوار، أنّ شبكات الدعم الاجتماعي المحيطة بهنّ تنهار تباعاً. فالقطيعة والبعد نتيجة المواقف والانحيازات السياسية أو الظروف الموضوعية، عمّقت الهوة وزادت الشروخ بين الناس. وأشاحت بعيداً الوجه والقلب عن علاقات إنسانية. كانت في يوم ما مثار فرح وانفراج هموم وأسارير. لتبقى الآن مجرد ذكريات بعيدة، لأشخاص لم ولن يعودوا يوماً كما كانوا.
عزلة وقلق
ساهم ذلك في ارتفاع مستويات القلق والاكتئاب عند السوريين عموماً، والنساء بشكل خاص. ففقدان الأمان والاستقرار، مع تراكم تاريخي للتمييز ضدهنّ وعدم المساواة في الحصول على الفرص، جعلت حصتهن في معدلات الفقر والأمية هي الأكبر. والزواج المبكر وعدد الأطفال الكبير والأعباء التي فرضت عليهنّ، بتوليهن أدواراَ متعددة كمقدمات وحيدات للرعاية في ظل غياب الأب. وضعتهنّ تحت ضغوط هائلة لتوفير الحماية لأسرهن. ما كان له تأثير كبير على ديناميكيات الأسرة، وقدرة النساء على رعاية أنفسهنّ بالدرجة الأولى. أدى ذلك إلى تفاقم مشكلات صحية جسدية ونفسية وحتى عقلية أحياناَ. خصوضاً لدى من شهدن فظائع وجرائم دموية أو تعرضن لصدمات شديدة، وما يليها من اضطراب ما بعد الصدمة.
تفتقر النساء اللواتي تعرضنّ للعنف القائم على النوع الاجتماعي إلى شبكات دعم متخصصة، وغالباً ما تلاحقهنّ وصمة عار اجتماعية، تدفع بهنّ إلى العزلة لعدم توفر البيئة المتخصصة الداعمة، فتتفاقم مشاكلهنّ، ويُترَكن منسيات في معاناتهن الصامتة تحت تأثير الكوابيس، والاضطراب العاطفي، والخوف والقلق والإكتئاب، فضلاً عن الخجل والشعور بالذنب.
قد تبدو هموم النساء اللاجئات في أوروبا ترفاً مقارنة بما تعانيه نازحات الوطن أو لاجئات دول الجوار، لكن ازدحام الميديا بمظاهر الرفاهية والسعادة عند البعض، لا تلغي حقيقة معاناة كثيرات من العنف والتمييز والقهر والاكتئاب بصمت. إنّهن لا يجدن من يتحدث لغتهن للحصول على علاج أو دعم نفسي, وإن وجد فإن تكلفته مرتفعة لايغطيها غالباً الضمان الصحي. ومع الذكريات القاسية التي حملنها، تعيش نساء كثر حياة محمّلة بتهديدات المجتمع المهاجر والعصا التي تلوح لهنّ من خلف البحر الذي نجونَ من الغرق فيه، ليغرقن في مشكلات لا تنتهي.
حتى في أوروبا والتي ينخفض فيها التمييز ضد النساء قانونياً بشكل كبير. رغم دعم الدولة للنساء. إلا أن الطلاق من مُعنف مثلاً لا يمر بسهولة. نتيجة رفض الأهل فكرة الطلاق، وشيوع صورة نمطية زائفة عن النساء اللاجئات اللواتي “سرحن على حل شعرهن”. إيجاد شريك مناسب لمن يرغبن ليس بالأمر السهل. في ظل طلبات الأهل مهوراً مرتفعة، وتحديات الزواج من أجنبي قضية لا يستهان. حكايات الحب المخذولة، الخيانات، العلاقات السامة والوعود الزائفة، المقارنات بين النساء (عربيات وأجنبيات). هوس عمليات التجميل، وترندات كثيرة زعزعت ثقة كثيرات بأنفسهن، أو بإمكانية وجود شراكات حقيقية ومحبة صادقة، وسط ضغط المجتمع الذي يعتبرهنّ ناقصات بدون شركاء، وبين اختيارهن بناء معايير مهنية ودراسية يصعب تحقيقها بالتوازي مع تأسيس أسرة ناقصة الشراكة. فالمجموعات على وسائل التواصل الاجتماعي، تعزز الخوف من اتخاذ هذه الخطوة مع تزايد حكايات الأمهات العالقات مع أطفالهن في دوامة الحياة الأوروبية وسلطة الرأسمالية. سواء كنّ مع أباء ينشغلون عن المشاركة في أعباء المنزل وتربية الأطفال بسبب العمل أو لأسباب ذكورية، أو كنّ متروكات لتحمل المسؤولية وحدهن، في ظل زواج يتداعى لأسباب مختلفة، مع غياب الدعم الأسري وتهديدات الأهل المحذرة من الطلاق. يضاف إلى ذلك تحديات تعلّم اللغة، ومتاهات البيروقراطية، والصراعات الناشئة في البيئة الجديدة، بما يتخللها من مشكلات عنصرية.
ترتفع الأصوات النسوية المحتفية بنجاحات النساء هنا وهناك. داعية لعدم تصوير النساء كضحايا ضعيفات عاجزات. فتسلط الأضواء على اللواتي نجحن رغم كل الصعوبات،، وهذا بكل تأكيد مهم جداً وضروي. لكن قصص النجاح المتميزة لا يجب أن تدفعنا لإسدال الستار عن معاناة غالبية النساء، اللواتي. وإن امتلك بعضهنّ الإمكانيات إلا أن الظروف المحيطة بهن لا تزال غير داعمة وغير مؤاتية لاستثمار مؤهلاتهنّ على اختلافها. ولنتذكّر أنّ المساواة وحقوق النساء ما زالت بعيدة المنال، والطرق أمامهنّ وعرة شائكة. تحتاج كثيراً من العمل لتمهيدها والمضي فيها، ضمن عالم تزداد مشكلاته تعقيداً يوماً بعد يوم.