أن نحاول ألّا نغفو على صوت المجزرة…

زينة شهلا | صوت سوري

منذ نحو سنة أو أكثر اعتدت لفترة وجيزة أن أتسلّى بألعاب الكلمات المتقاطعة وتخمين المفردات قبل النوم، اليوم أستعيد هذه العادة، فلا أغفو إلا على وقع الكلمات التي أحاول معرفتها كلها، وأشعر بغضب غريب إن عجزت عن ذلك. 

أبدأ بلعبة «ووردل» أو «الوِرد»، وهي نسخة معرّبة من لعبة إنكليزية، تتطلّب أن نُخمن كلمةً مؤلفةً من خمسة حروف في ثماني محاولات، ويمكن لعبها مرة واحدة فقط في اليوم. (كنت أتمنى لو أنها متاحة لمرات أكثر).

ما الكلمة التي سأبدأ بها؟ أحاول عادة أن أستعيد مفردة مرّت معي خلال اليوم. «مجزرة».. حرفان صحيحان: الميم والتاء المربوطة. التخمين الثاني: «مأساة».. لا حروف جديدة صحيحة. التخمين الثالث: «مقتلة».. التاء المبسوطة حرفٌ صحيح، لكن في غير موضعه. بعد ست محاولات أعرف الكلمة: «متّضحة». أفكر بأنها صفة مناسبة لكل خياراتي السابقة: مأساة، أو مقتلة، أو مجزرة متّضحة. 

أفكر: لو كنت أعيش في بلد آخر، بأي الكلمات كنت لأبدأ؟ 

قبل أن أنتقل إلى لعبة الكلمات المتقاطعة، أفتح «إنستغرام» كما أفعل كل عشر دقائق على الأغلب في الشهور الأخيرة.

منذ أكثر من شهر أتابع فيديوهات غزة «على الصامت». لم أعد أقوى على سماع صوت القصف، أو الضحايا يصرخون أو يبكون. رأسي ممتلئ بهذه الأصوات عن آخره. أشعر بأنّ كل شيء بات Deja Vu، أو كما يسميه ويكيبيديا: «وهم سبق الرؤية» عمّا عشناه في سوريا: القصف، والموت، والدمار، والهروب، والخيام، والأطفال، والألعاب، وأخبار النازحين، والجرحى، وعائلات الضحايا.. كل شيء! 
يقول ويكيبيديا إنّ «هذا الوهم يلازمه شعور بالرهبة أو الغرابة». لا أعلم إن كنت أحس بأيٍّ منهما. لا أعلم إن كنت أشعر بأيِّ شيء حقاً.

أفتح أحجية اليوم من الكلمات المتقاطعة: ممثل كندي.. لا أعرف سوى اسم ترودو من كندا، ولا أدري إن كان ممثلاً. دولة أفريقيّة.. ليست جنوب أفريقيا، فعدد الحروف أقل. اسم علم مذكر.. ليس «سعيد» بكل تأكيد! متشابهان. أ أ. رسام كاريكاتير فلسطيني... ناجي العلي. أمرٌ عظيم (معكوسة).. أكره الكلمات المعكوسة لأنها تتطلب الكثير من التفكير. أميرة بريطانية راحلة.. من غيرها؟ حرف نصب.. بصراحة؟ نسيت ما هي حروف النصب! مفرد ألوان. هاها صعبة فعلاً. تراب الشواطيء.. لماذا يكتبونها بالياء بدلاً من الألف المقصورة؟ لا أحبّ المدرسة المصرية في الكتابة. من القارات.. أوروبا. أتذكر عندما محونا أوروبا من الخارطة.. أبتسم. مرادف ألم.. وجع، لكن ليست «قهر». من الأطراف.. يد. كل يوم يفقد عشرة أطفال في فلسطين طرفاً من أطرافهمسال الدمع.. انهمر، جرى، فاض، هطل، انسكب، اندفق. سئم.. ملّ. صوت الألم.. أنين أم عنين؟ ما خطبهم اليوم مع الألم؟ وجع.. ألم. يكررون أنفسهم.

أحجية اليوم سهلة. الكلمات المتقاطعة التي اعتدت حلّها مع والدي حين كنت صغيرةً كانت أصعب، أو ربما هكذا يُخيّل إلي الآن. ما شكلُ الكلمات المتقاطعة بلغات أخرى؟

أفشل في أن أنام.

«إنستغرام» من جديد: أغنية «تلك قضية» الجديدة لفرقة «كايروكي»، عن ازدواجية المعايير في التعامل مع ما يحدث في فلسطين. أستمع إليها عشر مرات متتالية، أبكي. أفكر في أنني بحاجة – ربما – أن «أغيّر جو» قليلاً، لأنني سأفشل في النوم كلّما غرقت في قراءة ما يحصل على مدار الثانية.. قد تكون فكرة جيدة أن أستمع إلى أغنية «جيمس دين» للفرقة نفسها، ففيها شاب وفتاة «متمردين عالفاضي بدون قضية، مندوس بنزين جامد جامد جامد علشان نهرب من الدنيا ديّه».

أفشل في النوم مرة جديدة.

أبحث عن مقاطع فيديو «بايخة» على «إنستغرام»: رجل بلحية بيضاء وشعر طويل، يمسك ثلاث كرات بيد، ومنشفة باليد الثانية المرفوعة وهو يديرها دون توقف، ويرمي الكرات الثلاث لتدخل في ثلاثة كؤوس متجاورة.

في فيديو آخر يصبح العدد ستّ كرات. أنشغل في الأمر وأفكر بالنهوض من السرير لأجرب شيئاً مشابهاً، لكن ليست لدي أي كرات الآن. أبحث في التعليقات، فأقرأ أسئلة كثيرة تُطرح على الرّجل عن سرّ «قوّة التركيز» التي يمتلكها. صفحة ثانية تنشر مقاطع من مسلسلات سورية قديمة. ثالثة لشاب يحكي عن تجاربه في الغربة. 

أسمع صوتاً قويّاً نوعاً ما من الخارج. «قصف؟»، أفكّر… ربّما. ازدادت وتيرة الاعتداءات الإسرائيليّة على مواقع مختلفة في دمشق ومحيطها منذ بدء طوفان الأقصى. أفتح قنوات الأخبار على «تلغرام».. آخر خبر منذ عشر دقائق: «لحظة انقطاع الكهرباء وتوقف مستشفى….».. لا أرغب في إكمال القراءة، فما الفائدة؟ 

لا بد أن أغفو في نهاية المطاف….

شاركنَ المنشور