إعادة إحياء العروبة في الحركة النسويّة في الشرق الأوسط

ماريا نجار | كحل

مقدّمة

تشكّل المرحلة الراهنة مناسبة ملفتة وجديرة بالاهتمام للتمعّن في التوتّرات التي يشهدها بناء الحركات النسويّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فها نحن اليوم نشهد على تلاشي زخم انتفاضات “الربيع العربيّ” في وجه الأنظمة القمعيّة والديكتاتوريّة على امتداد الرقعة الجغرافيّة للمنطقة. شملت الانتفاضات الشعبيّة بلدانًا عدّة، وإن في تواقيت مختلفة وتداعيات وتأثيرات متمايزة، من بينها تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين والمغرب والعراق والجزائر ولبنان والأردن والسودان. ورغم اختلاف السياقات، فإن هذه الانتفاضات تحمل اليوم قاسمًا مشتركًا أساسيًّا. تصف “خميس” (2018، ص. 8) كيف شكّلت هذه الانتفاضات “لحظة تحوّل مهمّة في التاريخ العربيّ المعاصر، و[كونها] نقطة ارتكاز مفصليّة كانت لها تداعيات متعدّدة في مسيرة النضال المستمرّة للنساء العربيّات على الأصعدة السياسيّة والاجتماعيّة والقانونيّة”. بالفعل، كانت النساء فاعلات مؤثرّات في هذه التظاهرات الاحتجاجيّة نظرًا لانخراطهنّ في نضال متعدّد الأوجه ضد الأنظمة القمعيّة التي تهدّد أمنهنّ واستمراريّتهنّ كمواطنات من جهة وكنساء تقترن مواطنيّتهنّ بالبعدين الجندريّ والإثنيّ من جهة أخرى. وبعيدًا عن الأوهام حول وجود علاقة سببيّة مباشرة بين الانتفاضات الشعبيّة وبين التغيير الاجتماعي والسياسيّ الطويل الأمد، إلا أنه يمكننا القول إنّ حضور النساء في ساحات المواجهة والنضال وتأديتهنّ أدوارًا متخطّية للأعراف وللمعايير المجتمعيّة السائدة، قد انعكس فاعليّة وقوّة مستجدّتين لا تزال آثارهما جليّة وملموسة بعد مرور تسع سنوات. وبالنظر إلى الدور الأساسيّ الذي أدّته النساء ولا زلن تؤدّينه اليوم في الاحتجاجات الأخيرة في لبنان والجزائر والسودان، يتبيّن أنّ الحدود الفاصلة بين الفضاء الخاصّ الذي لطالما اعتبر مساحة للنساء وبين الفضاء العامّ الذكوري قد تلاشت معالمها.

ويشهد الوقت الراهن صراعات جيوسياسيّة تعمّ أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ما يفرض تحدّياته الخاصّة على واقع بناء الحركات النسويّة على المستوى الإقليميّ. فبدءًا من الاحتجاجات الحاليّة ضدّ النخبة السياسيّة الفاسدة في لبنان وصولًا إلى مخطّط “السلام” الأخير الذي باشرته إدارة ترامب، تطرح هذه الديناميكيّات عراقيل جديدة في وجه تعزيز أي نوع من النشاط النسوي في المنطقة، كما تخلق فرصًا لم تكن متاحة من قبل. أمّا التحدّي الحاسم في هذا الإطار فيتمثّل بالجائحة العالميّة التي نتخبّط في وسطها والتي تستدعي، اليوم أكثر من أي وقت مضى، تعزيز شبكات التضامن والتعاون الإقليميّ والعابر للحدود وإعادة تقييم نواقص النظام النيوليبرالي المعولم الذي نعيشه والذي تنعكس مفاعيله بصورة غير متساوية على المجموعات المستضعفة في المجتمع من بينها النساء والأطفال. من هنا، فإنّ هذا السياق المشحون بالتوتّرات المتداخلة والمتعدّدة الأوجه يضاعف أهميّة إعادة النظر في واقع النسويّة وحركاتها المتوزّعة في كافّة أرجاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا بهدف الكشف عن مكامن التوتّر والتحدّيات المتكرّرة في مواجهة النشاط النسويّ في المنطقة فحسب، بل ليتسنّى لنا وضع تصوّرات جديدة متّسقة مع الظروف الراهنة وقادرة على الدفع في اتّجاه تعزيز قدرة هذه الحركات وتوسيع مجال تأثيرها. وتستدعي هذه الخلاصة تقييم السبل التي يمكن للمؤسّسات والمنظّمات العالميّة والإقليميّة والمحليّة انتهاجها لتصبح كمحرّكات فاعلة تدفع باتجاه التغيير الاجتماعي والسياسيّ أو لتتحوّل على النقيض من ذلك إلى مساحات للصراع.

انطلاقًا من ذلك، يشكّل هذا النصّ محاولة لإعادة التقييم، أستهلّها باستطلاع المحاولات التاريخية السابقة التي بذلتها النسويّات العربيّات لبناء تحالف نسويّ إقليميّ، يليها تقييم للإشكالات وللفرص الحاليّة في سياق بناء الحركات النسويّة في المنطقة. وتساهم هاتان المرحلتان من البحث في تصوّر واقتراح تشكيل حركة نسويّة عربيّة كمنهج مثمر وكفؤ في بناء الحركات النسويّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وأودّ التأكيد على الاستخدام الآنف الذكر لفعل “التصوّر”، إذ يقع هذا النص في نطاق المخيّلة النسويّة ويهدف تحديدًا إلى تشكيل مفهوم استقصائيّ للتنظيم والحشد في السياق الراهن. كما يشكّل هذا النص دعوة للآخرين للبحث في مكامن قوة هذه التصوّرات وللتأسيس على الأفكار المبدئيّة التي يطرحها.

تعريفات وتمييزات

قبل أن أبدأ، أودّ أن أشير إلى حدود المصطلحات المستخدمة والإشكالات التي تنطوي عليها. إذ أن الدعوة إلى تبنّي مفهوم حركة نسويّة عربيّة جامعة تفترض إنشاء شبكات تضامنيّة استنادًا إلى محورين اثنين: الأوّل توافر تصوّر عن العمل الجماعيّ من منطلق “عربيّ”، والثاني تصوّر مفهوم العمل الجماعيّ من منطلق نسائيّ، أي خلق تحالف قائم على أساس القواسم المشتركة من الناحيتين الجندريّة والوطنيّة.

وأدرك تمامًا أنّ هذين المصطلحين ينطويان على نزعات إقصائيّة كونهما لا يمثّلان تنوّع سياقات الواقع المادّيّ المعاش في المنطقة، ولا سيّما أنّ فرضيّة التجانس على أساس الهويّة العربيّة تستبعد من التمثيل جميع من كانوا تاريخيًّا من المجموعات المهمّشة والمهجّرة والمقموعة من قبل الشعوب العربيّة. تشمل هذه المجموعات على سبيل المثال لا الحصر الأرمن والبربر وأهل النوبة، إضافة إلى مجموعات بارزة من العمّال والعاملات المنزليّين والمنزليّات المهاجرين والمهاجرات في كافّة أنحاء المنطقة. لذا فإن إرغام هذه المجتمعات على الانضواء تحت عباءة مصطلح “العرب” هو بمثابة عنف معرفيّ إبيستيميّ بحقّها إلى ذلك، فإنّ افتراض التجانس على أساس الجندر يهمل الأوجه المتعدّدة التي يتقاطع فيها الجندر مع الهويّات الاجتماعية المختلفة كالعرق والإثنيّة والجنسيّة (ألكوف، 2017، ص. 46).

إلى ذلك، لا يقدّم هذا المصطلح الشيء الكثير لدعم بناء التحالفات وحركات التضامن الفعّالة. توضح “موهانتي” أنّ “العمل النسويّ هو في صميمه عمل جماعيّ، وأنّ جوهر الجماعة يُدرك بالنضال اليوميّ ضدّ الحدود المفروضة وعبرها” (كما ورد لدى بولهاوس جونيور، 2017، ص.51). فهي تدعو إذًا إلى “بناء نسويّة الـ99 في المائة”، الملتزمة بالتفاعل والعابرة للاختلافات بين النساء – نسويّة تتّصل “بالممارسة والتجربة الماديّة لمختلف الجماعات النسائيّة المجندرة والعرقيّة (من المعياريّات والعابرات) على اختلاف تموقعاتها الطبقيّة والجنسانيّة والقدراتية1 والمواطنيّة” (موهانتي، 2017، ص. 19). بالتالي، تدعو “موهانتي” إلى تشكيل بنية للتضامن على أساس الصراع والمواجهة الجماعيّة ضدّ الهيكليّات المشتركة للقمع والهيمنة. وتأسيسًا على هذا المفهوم، يمكن القول إنّ الحركة النسويّة العربيّة أقلّ تمسّكًا بمفهوم “الجماعية” المرتكز على الهوية المشتركة للنساء العربيّات وأكثر اتساقًا مع الدعوة لبناء تحالف قائم على النضال الناشط ضدّ المظاهر المتنوّعة للسلطة الأبويّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وهنا، أتّفق في هذا الطرح مع ما سبق وعبّرت عنه “ليندا ألكوف”:

يمكن تحقيق التضامن إذًا فقط من خلال تحالفات مرحليّة أو جزئيّة تنشأ عن الاجتماع حول قضايا ملموسة كبديل عن تشكيل الجماعات الهشّة والمصطنعة التي تنتظم حول أفكار التحرّر من الجندر. وتتطلّب هذه التحالفات المرحليّة نوعًا من الحوار التعدّديّ الثقافيّ الذي يسعى إلى التعبير عن السرديّات المتنازع عليها في سياق يضمن الحدّ الأدنى من التوافق والاصطفاف. (2017، ص. 47)

ووفقًا لهذا المبدأ، على التحالف النسويّ العربيّ الإقرار بتعدّديّة التجربة المجندرة واختلاف وسائطها في مقابل التوافق الإيديولوجيّ على استعداء الأبويّة بكافّة مظاهرها. ويتمّ تحقيق هذه التشاركيّة وتمتينها من خلال تبنّي أجندة تغييريّة تستهدف الأبويّة كمنظومة للاستغلال والهيمنة.

وتجدر الإشارة هنا، وعلى ضوء الأحداث الحالية في الولايات المتحدة الأميركية وفي العالم، وفي إطار الإحتجاجات على الإضطهاد المتواصل الذي تمارسه أجندات التفوّق الأبيض بحقّ مجتمعات السود، إلى أن التضامن العابر للحدود يكتسب الآن أهمية قصوى وأكثر من أيّ وقت مضى. أقول ذلك لأن المجتمعات العربية أيضا هي هدف لحملات ضبط بوليسية وتجريم وتمييز غير متكافئة ومبرّرة عرقيا، خاصة منذ بداية الحرب الأميركية على الإرهاب في عام 2001. يرتكز بالتالي التضامن بين السود والعرب على صراع مشترك ضدّ مشروع التفوّق الأبيض والإمبريالية العالمي الذي يعتبر المجموعتين “كيانات أجنبية” يجب ضبطها وإحتواؤها. ولا يقتصر هذا المشروع على الولايات المتحدة الأميركية فحسب، لكنه يشمل أيضا التدخلات الإستعمارية الجديدة التي تقوم بها القوى الأوروبية والتي لا تزال سائدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إنطلاقا من ذلك، تتحوّل التحالفات السياسية والتضامن إلى خيارات سياسية ننتهجها بصورة متعمّدة بإسم هذا الصراع المشترك (اللجنة الأميركية العربية المناهضة للتمييز ADC، عام 2020). فيصبح هذا الصراع العامل المشترك المحدّد للحركة النسويّة في بعدها العروبيّ، وليس الهويّة “العربية”.

وتختلف العروبة عن غيرها من الإيديولوجيّات السياسيّة القوميّة. فغالبًا ما تُدرج الإيديولوجية العروبيّة تحت راية القوميّة العربيّة التي تسهم في تكريس معناها السائد كإيديولوجية سياسيّة قوميّة تدافع عن الوحدة السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة للبلدان العربيّة (دانييلسن، 2007، ص. 17). وقد اكتسب هذا التعريف أهمية قصوى في لحظة تاريخيّة مفصليّة شهدت سعي الدول العربيّة إلى مقاومة هيمنة السلطنة العثمانيّة والاستقلال عنها أوّلًا ومن ثم الاستقلال عن القوى الغربيّة لاحقًا (FM، 2016). وللمفارقة يتحمّل هذا التعريف مسؤوليّة وصم العروبة تاريخيًّا كحركة فاشيّة معادية للديموقراطيّة. في المقابل، ولغايات هذا النص، سوف أنأى بمفهوم العروبة عن هذا التعريف كونه يخفق في تأدية المغزى الذي يصبّ في خدمة الأهداف النسويّة، إضافة إلى عدم قدرته على الإحاطة بالسياقات الاجتماعيّة والسياسيّة الراهنة التي تمهّد لنشوء حركة نسويّة عربيّة. إذًا يستند تعريفي للعروبة إلى طروحات “تملالي” حول بروز نموذج جديد من الوحدة العربيّة قائم على وحدة الشعور:

وهو نموذج قائم بصورة أشمل على الموقف السياسيّ لا على الاعتبارات الإثنيّة أو العرقيّة: رفض الهيمنة الأجنبيّة والسعيّ نحو الحريّة والإيمان بالقدرة على التغيير. هذا الشعور المستجدّ المنصهر في أتون من الحروب الدمويّة ضدّ الاستبداد وفي سبيل العدالة الاجتماعيّة هو شعور بعيد كلّ البعد عن المواقف التي زخرت بها عهد القوميّة العربيّة في عهدها الذهبي والتي وإن كانت معادية للإمبرياليّة بطبيعتها، فقد كانت أيضًا معادية لحقوق الإنسان ولمبادئ الديموقراطيّة. (2016، ص. 49)

في سياق مرحلة ما بعد “الربيع العربيّ”، يتّخذ مفهوم العروبة معنىً يعبّر عن التوق الجماعيّ إلى الحريّة والعدالة الاجتماعيّة الذي عمّ بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا واستقطب جميع الفاعلين/ات والناشطين/ات حول أهداف الحشد والتنظيم في سبيل تحقيق هذه المطالب. هنا، يمكن تعريف النسويّة العربيّة بأنّها نتاج تنسيق بين فاعلين/ات متعدّدين/ات نسويّين/ات ومحلّيين/ات ووطنيّين/ات من الأفراد والمنظّمات الذين واللواتي التقوا/ين وتضامنوا/ن وتعاونوا/ن على النضال الفعليّ من أجل تفكيك المنظومة الأبويّة بكافّة مظاهرها الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والدينيّة.

وممًا يجعل هذا المفهوم أكثر ملاءمة من غيره من التعابير أمثال “النسويّة العابرة للحدود” هو تلك الرابطة الوجدانيّة التي صهرها التوق الجماعيّ لتحقيق العدالة الاجتماعيّة. وإنّما يتّضح قصور النسويّة العابرة للحدود عن تحقيق المغزى الوجدانيّ الذي تختزنه العروبة ولا سيّما أنّ الأخيرة تتمحور حول لا مركزة الإنتاج المعرفيّ الغربيّ من خلال التفاعلات التشاركيّة التي تهدف إلى توكيد تعدّديّة النضالات النسائيّة من أجل العدالة (ناغار وسوار، 2010). وهذا بالضبط ما تعمل من أجله الحركة النسويّة العربيّة إلى جانب كونها تنطوي على العنصر الوجدانيّ الذي يشكّل الأساس في تكوينها.

في المحصّلة، فقد حاولت أن أبرّر استخدامي لمصطلح “العروبة” من خلال الإضاءة على كافّة الإشكالات التي ينطوي عليها هذا التعبير والإيضاح بأنّ استخدامه في سياق هذا النصّ يحمل معنىً رمزيًّا بعيدًا عن معناه الحرفيّ. وبالتالي فإن استخدام هذا المصطلح لا يفرض أي نوع من الإملاءات على مشروع بناء التحالف النسويّ كما لا يخصّ العرب وحدهم ولا ينحصر بهم دون غيرهم، إنّما هو خيار يهدف، في ظل عدم وجود مصطلح أفضل، إلى الدعوة لبناء مجال أوسع للتضامن النسويّ يعمّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وهو مناسبة أيضًا لمواصلة التفكير معًا للوصول إلى مصطلح أكثر شمولًا.

نبذة تاريخيّة (مختصرة) عن الحركة النسويّة العربيّة: إرث الاتحاد النسائيّ العربيّ

من المفيد أن نبدأ بلمحة تاريخيّة عن انطلاقة الحركة النسويّة العربيّة كإيديولوجية تهدف إلى بناء حركة نسويّة عابرة للحدود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. تكمن أهميّة هذه اللمحة في أنّها تلقي الضوء من ناحية على الإخفاقات التي شهدتها هذه الحركة والإمكانات التي تهيّأت لها في لحظة مفصليّة على الصعيدين التاريخيّ والاجتماعيّ السياسيّ، وتطرح الاستفسارات حول مدى تطابقها مع الظروف الراهنة وإمكانيّة تحقيقها في الوقت الحاضر من ناحية ثانية. إلى ذلك، تمثّل هذه العودة إلى مرحلة تاريخيّة من العمل النسويّ فعلًا تضامنيًّا نقوم من خلاله بتكريم نضالات المرحلة ومحاولاتها وانتصاراتها، كما أنّها بمثابة احتفاء بالعمل الجماعي وبالمثابرة اللذين يمثّلان الدعامة الأساسيّة لنجاح العمل النسويّ العابر للحدود. فالحركة النسويّة ليست حدثًا بحدّ ذاته، بل عملية مستمرة.

كان الاتحاد النسائيّ المصريّ قد سبق وحاول في الأربعينيّات تبنّي وتطبيق إيديولوجيّة الحركة النسويّة العربيّة بعدما لمس النزعات الشموليّة المتزايدة لدى المنظّمات النسويّة الدوليّة التي افترضت تجانسًا في ظروف القمع التي تخضع لها النساء وفي مطالبهنّ على اختلاف بيئاتهنّ (بدران، 1995، ص. 109). وفي الثلاثينيّات، ومع اشتداد حملة مقاومة الاستعمار البريطانيّ في كلّ من مصر وفلسطين، بدأ التحيّز للمصالح الامبرياليّة يتضّح في الأوساط النسويّة الدوليّة التي كان الاتّحاد النسائيّ المصريّ عضوًا فيها، متصدّرًا الأولويّة على القضايا الجندريّة. وقد فاقم هذا الموقف حدّة الشقاق بين أعضاء تحالف النساء الدوليّ (IAW) وبين الاتّحاد النسائيّ المصريّ، أي بين المستعمِرات والمستعمَرات، ما دفع الأخير إلى الدعوة لتشكيل تحالف نسائيّ إقليميّ (بدران، 1995، ص. 109). بعبارة أخرى، يمكن القول إنّ الاتّحاد انبثق بشكل جزئيّ من الحاجة المبكرة إلى تحرير المعرفة والممارسة النسويّتين من سلطة الاستعمار بهدف إعادة النظر في مختلف أوجه الواقع الماديّ الذي تعيشه النساء العربيّات. إذًا، فقد جاء تأسيس الحركة النسويّة العربيّة ردًّا على محدوديّة خطاب الحركة النسويّة الدوليّة وتجاوبًا مع النزعات الوطنيّة والخطابات الداعية للاستقلال في المنطقة (بدران، 1995، ص. 224). وتأسّس الاتّحاد النسائيّ العربيّ في العام 1944 بناء على برنامج ساهمت في صياغته كلّ من “هدى الشعراوي” والاتّحاد النسائيّ المصريّ ووفود من فلسطين ولبنان وسوريا وشرق الأردن والعراق وذلك أثناء انعقاد المؤتمر النسائيّ العربيّ في القاهرة في العام نفسه (بدرلن، 1995، ص. 239). وكان الهدف الأبرز من هذا البرنامج المطالبة باستعادة الحقوق السياسيّة والقانونيّة والاقتصاديّة للنساء في كافّة أنحاء المنطقة الناطقة بالعربيّة.

لم يعمّر الاتحاد النسائيّ العربيّ طويلًا إذ توفّيت “هدى الشعراوي” وبرزت خلافات على قيادة الاتّحاد النسائيّ المصريّ ولا سيّما مع استمالته من قبل نظام جمال عبد الناصر الذي كان يتعمّد دمج جميع المؤسّسات والحركات على كافّة المستويات تحت مظلّة الدولة (بدران، 1995، ص. 248). وبعبارة أدقّ، لم يكن حكمه يحبّذ الاستقلاليّة السياسيّة وبالأخصّ إذا كانت تتضمّن أجندة نسويّة. وقد فُرض على الجمعيّات النسائيّة الحصول على ترخيص بحيث تصبح تحرّكاتها وأنشطتها تحت مراقبة الدولة وسيطرتها، كما كان على ممثّلي/ات هذه الجمعيّات الاستحصال على تصاريح للدخول والخروج للمشاركة في المؤتمرات، ما سمح للنظام بالتحكّم بحركتهم/ن، إلى أن أصبح يقرّر أيًّا من الجمعيّات والمنظّمات يُسمح لها بالعمل ضمن المنظومة السياسيّة في مصر (بدران، 1995، ص. 249).

ومع ذلك، فإن تجربة الاتّحاد النسائيّ العربيّ تستحقّ التوقّف عندها. إذ توضح “بدران” (1995، ص. 250) أن الاتّحاد أوجد هيكليّة إقليميّة نجحت في التعامل مع مختلف المظاهر والتحوّلات الأبويّة. وتخصّ بالذكر قدرة أعضاء الاتّحاد النسائيّ العربيّ على التفاوض مع الحكومات حول القضايا النسائيّة والوطنيّة (بدران، 1995، ص. 250). كما ساهم الاتّحاد النسائيّ العربيّ في توسيع وتوحيد الحركات النسويّة في العالم العربي: “كان هناك شعور بالثقة بأنّ توحيد الحركة النسويّة العربيّة سوف يسرّع تحقيق الإنجازات المنشودة في الشرق العربيّ عشيّة ثورات الاستقلال والتحرّر الوطني” (بدران، 1995، ص. 250).

يتشابه هدف الاتّحاد التأسيسيّ مع ما أتصوّره عن بناء حركة نسويّة عربيّة اليوم. لقد أُوقفت أنشطة الاتحاد بتدخّلات من “أنظمة الدول المركزيّة الحاكمة” التي لم تكن تحتمل أي نوع من النشاط السياسيّ المستقلّ (بدران، 1995، ص. 250)، بالرغم من أن الحركة النسويّة العربيّة، لحظة تأسيسها في العام 1944، كانت قد لاقت ترحابًا من قبل الحكومات العربيّة الذكورية التي لم تكن تحبّذ أي دور للمرأة كمواطنة متساوية متمتّعة بكافّة الحقوق (بدران، 1995، ص. 240). رأت تلك الحكومات أنّ دور المرأة الرئيسيّ يُقيّم بحسب إسهاماتها في تعزيز المشروع القوميّ كما اعتبرت النساء مهيّآت بالفطرة للانخراط في العمل الفنّي والثقافيّ والخيريّ دون غيره من الأعمال (بدران، 1995، ص. 241). أمّا وبعد أن أعادت النساء والشعوب اكتشاف دورها وفاعليّتها وزخمها وقوّتها في مرحلة ما بعد “الربيع العربيّ”، فأنا واثقة أن قيام حركة نسويّة عربيّة في الوقت الحاضر لن يكون له نفس مصير الاتحاد النسائيّ العربيّ. فنحن نشهد مرحلة مختلفة على الصعيدين السياسي والاجتماعيّ أكثر انفتاحًا على التفاوض مع ومن خلال أجهزة الدولة. وكما سأبيّن في القسم التالي، فإنّ هذه المرحلة تتميّز بازدياد الحضور النسائيّ في الفضاءات العامّة وتعاظم أهميّته، إضافة إلى تحسّن قدرة النساء على التواصل مع بعضهن البعض ومع الآخرين، ما يوفّر أرضيّة أفضل بكثير لتأسيس حركة نسويّة عابرة للحدود. ولا يمنع ذلك وجود بعض الإشكاليّات التي تضع مهمّة بناء حركة نسويّة إقليميّة جامعة أمام العديد من التحدّيات.

الإشكالات والفرص أمام بناء حركة نسويّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

على ضوء الإشكالات التي يطرحها السياق الراهن، يكتسب فعل بناء الحركة العابرة للحدود بعدًا “إبداعيًا” “تصوريًا” يقتضي ابتكار سبل التعامل مع هذه الإشكالات ومعالجتها وتخطّيها.

تمخّضت مشاركة النساء في الاحتجاجات والتظاهرات التي شهدها “الربيع العربي” عن تأسيس فهم جديد لدورهنّ في عمليّة الإصلاح السياسيّ والاجتماعيّ. ولا شكّ أن المفاهيم التقليديّة للأدوار الجندريّة عادة ما تفقد معناها إزاء المصلحة العليا للنضال أثناء مراحل الثورات الاجتماعيّة السياسيّة (كوك، 2016، ص. 32)، فيصبح حضور النساء في التظاهرات الاحتجاجيّة أمرًا مقبولًا وإن بصورة مؤقّتة. وقد أثبت التاريخ أنه وفي لحظة انكفاء الثورات، يُتوقّع من النساء بل يُفرض عليهنّ العودة إلى الفضاء الخاص حيث موقعهنّ التقليديّ. وتشير “كانديوتي” (2013) إلى أن إصرار النساء على مواصلة المشاركة في الحياة العامّة غالبًا ما يفضي إلى نشوء آليّات لممارسة القهر الثأريّ عليهنّ أو ما تسمّيه “إحياء الذكوريّة” من قبل السلطة السياسيّة الأبويّة. وهذا ما يفسّر اللجوء الشائع للاغتصاب، على سبيل المثال، كوسيلة رادعة ومثبّطة لمشاركة النساء في الحقول العامّة. وقد شهدت الثورات التي جابت الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بين العامين 2011 و2015 تزايدًا مضطردًا لممارسات العنف الجنسيّ ضدّ النساء، فكان معمّر القذّافي في ليبيا وبشار الأسد في سوريا وحسني مبارك في مصر من بين الذين أصدروا الأوامر لاستخدام الترهيب الجنسيّ ضدّ النساء الناشطات سياسيًّا وإن بدرجات متفاوتة خلال هذه الثورات (كوك، 2016، ص. 37). غير أنّ “كانديوتي” تغفل في مجال تحليلها أيّ حديث عن الدور والفاعليّة اللتين تسلّحت بهما النساء بالتزامن مع هذه الأحداث العنيفة ماضيات بالمطالبة بالعدالة الجندريّة في مرحلة ما بعد “الربيع العربي” في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فبالرغم من تحويل أجساد النساء إلى هدف لعمليّة “الإحياء الذكوريّ”، لم تتراجع عزيمة النساء في السعي لإسماع مطالبهنّ والاستحصال على الاعتراف بشرعيّتها والاستجابة لها، بل على العكس، بات ذلك دافعًا لهنّ للحشد بأساليب مبتكرة سواء من ناحية العمل التعاونيّ أو من ناحية التنسيق العابر للحدود (كوك، 2016، ص. 43). ويمكننا أن نرى ردود الأفعال في مواجهة تكتيكات “الإحياء الذكوري” كنوع من الثأر النسويّ الذي تميّز لا بالمطالبة بالاعتراف بحقوق النساء فحسب بل وتوقّع إحلال العدالة أيضًا. وهناك العديد من الأفعال والمحاولات والمبادرات التي تشكّل دليلًا على ممارسة هذا النوع من الثأر النسويّ على مدار العقود السابقة من العمل النسويّ. ومن الأمثلة على ذلك حركة أنا زادة2 (#EnaZeda) التي انطلقت في تونس في تشرين الأوّل/ أكتوبر من العام 2019 وحثّت الآلاف من النساء التونسيّات على فضح وإدانة التحرّش الجنسيّ في الأماكن العامّة (بن صلاح، 2020). وفي سياق مشابه، وردًّا على التهديدات بالتحرّش التي هدفت إلى إحباط النساء اللبنانيّات عن العمل السياسيّ أثناء الثورة، تمّ إنشاء فريق من الحرّاس المتطوّعين كما أُنشئت حسابات على وسائل التواصل الاجتماعيّ وظيفتها فضح المتحرّشين على الملأ والمساهمة في تحويل الأماكن العامّة إلى أماكن آمنة لجميع المتظاهرين/ات (ويلسون، زبانه، دور-ويكس، 2019، ص. 12). إلى ذلك، سيطرت صور النساء وهنّ يقدن الثورات الاحتجاجيّة على المشهد الإعلاميّ في أنحاء المنطقة، ما ساهم في دعم العمليّة المتواصلة لتطبيع مظهر النساء في الحياة العامّة والسياسيّة. وقد تحوّلت “ألاء صلاح” إلى أيقونة لاحتجاجات العام 2018 في السودان بعدما انتشرت صورتها وهي تخاطب جموع المحتجّين/ات من على سطح شاحنة، فيما قدّمت الناشطة اللبنانيّة “ملاك علوية” نموذجًا آخر للعمل “البطولي” وهي تركل مرافقًا لأحد الوزراء بين فخذيه لحظة اندلاع الاحتجاجات الشعبيّة ضدّ النخبة السياسيّة الفاسدة (علّوش، 2020). لست أشير إلى هذه الأمثلة من منطلق أنّها التعبير الأسمى عن مشاركة النساء في التظاهرات، إذ مارست النساء أدوارًا بارزة واحتلّت مواقع متنوّعة شديدة الأهميّة على صعيد حشد هذه التظاهرات الضخمة وتنظيمها. ولكنّ هذه الأعمال الثوريّة غالبًا ما تكون أقلّ جذبًا للتغطية في وسائل الإعلام السائدة التي تصبّ تركيزها بالدرجة الأولى على المشاهد المثيرة بهدف اجتذاب الجماهير. وإنّما تشير هذه الأمثلة إلى كيفيّة تحوّل هذا النوع من التصوير إلى أداة مهمّة تساهم في تسليط الضوء على حضور النساء في الحقل السياسيّ العامّ.

2. تعبير باللهجة التونسية الدارجة، يعني “أنا أيضًا”، وينسب إلى الانضمام إلى الحملة النسوية العالمية #MeToo. (هيئة التحرير)

أنتجت الشعوب وفي مقدّمها النساء أنماطًا جديدة من الحشد الجماهيريّ العابر للحدود بفضل قوّتها وحضورها المستجدّين، فضلًا عن تزامن الثورات في مختلف أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويمثّل تعبير “الثورة العابرة للحدود”، الذي استخدمته “كوك” لوصف تلك الثورات التجسيد الأمثل للملاحظة التالية البالغة الدقّة: “ما من حدث يجري بمعزل عن الآخر، فالثورات المتباعدة خلقت جوقة أصداء متآلفة إذ تتفجّرالطاقة في موضع منها، فتشدّ عزيمة موضع آخر أصابه الوهن” (2016، ص. 43). في مقابل ذلك، تدعونا “خميس” (2011، ص. 694) إلى الالتزام “بالتفاؤل الحذر” في تصوّراتنا عن وقع “الربيع العربيّ” على قضايا النساء. فمع أنّ النساء تمكنّ من الخروج إلى الشوارع في أكثر البلدان قمعًا وتحفظًا كالبحرين واليمن، إلّا أن ذلك لم يفضِ بالضرورة إلى إحراز التغيير الاجتماعيّ والسياسيّ الذي يصبّ في مصلحة النساء. ولكن يبقى الوقع الفصل في كلّ هذا لمثابرة النساء والتي أظهرن من خلالها شجاعة وإصرار ورغبة في مواصلة النضال رغمًا عن الظروف والعراقيل، ما دفع خميس إلى الاستخلاص بأن “لا عودة إلى الوراء بالنسبة للنسويّات العربيّات” (2011، ص. 694). كذلك يؤكّد “أبو حبيب” على هذه الطاقة النسوية الجديدة على الإبداع المشترك: في سياق هذا المشروع (الإبداع المشترك)، لم يعد في مقدور الأفراد أو مؤسّسات السلطة استغلال الفضاءات والأصوات والموارد أو إبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه. في الوقت عينه، حقّقت الثورة مستوىً من النمو والشجاعة السياسيّين يمكّننا من فضح أية محاولات من هذا النوع في حال حدوثها ولحظة حدوثها.

تراجعت حدّة بعض الإشكالات المتعلّقة ببناء الحركة النسويّة أمام مطالبة النساء بالتغيير وإصرارهنّ على إحرازه. وقد كان لانتشار منصّات وسائل التواصل الاجتماعي دور في تيسير التواصل والتعاون العابرين للحدود بين مختلف الأفرقاء والفاعلين/ات المعنيّين/ات. وتبرز أهميّة هذه المنصّات من خلال ملاحظة الحضور الطاغي للنشاط السبرانيّ في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على امتداد العقود الماضية وملاحظة كيفيّة مساهمة الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات في رفع مستويات المشاركة المدنيّة وتعزيز المجتمع المدنيّ. وأثبتت هذه الوسائل منفعتها في تخفيف حدّة العقبات التي اعتبرتها “خميس” و”ميلي” الأبرز في وجه بناء حركة نسويّة إقليميّة، ألا وهي التشرذم والانقسام والاستقطاب، والتي كانت نتيجة لغياب بنية متينة ومنظّمة للمجتمع المدنيّ (2018، ص. 246). فمن وجهة نظر “خميس”، يتحمّل غياب مجتمع مدنيّ قاعديّ متضامن وحيويّ على المستويين المحلّي والإقليميّ بالإضافة إلى وجود فراغ في السلطة جزءا من مسؤوليّة الحدّ من فاعليّة الإصلاحات الاجتماعيّة والسياسيّة في العديد من البلدان المعنيّة (2018، ص. 246). وفي اعتقادي، ليست حالة التشرذم عائقًا في حدّ ذاتها، بل إنّ ضياع فرصة توحيد الجهود هو ما حال دون نجاح العمل النسويّ الاجتماعي السياسيّ. وفي المستطاع تأسيس هذه الوحدة عن طريق بناء شبكات التضامن العابرة للحدود بمساعدة تكنولوجيات مشاركة المعلومات الحديثة ونشر الوعي وتعزيز المشاركة المدنيّة. وإن قصة بروز اللجان الشعبيّة المحليّة في مصر ليست إلا خير مثال على ذلك. فقد تمّ تشكيل هذه اللجان من قبل عدد من الناشطين/ات في منظّمات المجتمع المدنيّ بعدما قام نظام مبارك بسحب قوات الشرطة من كافة أنحاء شوارع القاهرة وبإطلاق السجناء في الشوارع للهجوم على المتظاهرين/ات (نيوسوم ولنغل، 2012، ص. 35). وقد بقي عدد من هذه اللجان فاعلًا حتى بعد عودة قوى الشرطة، ولكنّه حوّل اهتمامه نحو أغراض مدنيّة على رأسها تحسين الظروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة على مستوى المجتمع المحلّي (بريمر، 2011، ص. 72). تجدر الإشارة إلى أن تجربة هذه اللجان الشعبيّة تُعتبر أوّل مبادرة قاعديّة حقيقيّة تنبثق من المجتمع المدنيّ المصريّ المستضعف تاريخيًّا، وأوّل إشارة على فاعليّة العمل الجماعيّ على المستوى المحلّي في مصر (بريمر، 2011). وقد استخدمت هذه اللجان وسائل التواصل الاجتماعيّ للتنظيم والحشد على المستويين المحلّي والوطنيّ والأهمّ من ذلك على المستوى الإقليميّ، حيث قام الناشطون/ات في تونس بالمبادرة إلى مشاركة خبراتهم/ن ومعارفهم/ن مع نظرائهم/ن المصريّين/ات بحكم تجاربهم/ن على الأرض خلال ثورتهم/ن التي سبقت مصر بأسابيع قليلة (نيوسون ولنغل، 2012، ص. 35؛ بريمر، 2011).

تتولّى منصّات التواصل الاجتماعيّ إظهار العنف الذي تمارسه الأنظمة الاستبدادية كما تبيّن الأعمال الثوريّة التي يقوم بها الناس لصدّ هذا العنف. وبالنظر إلى حجم جمهور هذه المنصّات، يمكن القول إنها باتت تشكّل فضاءات عرض وأمثلة ملهمة بالنسبة إلى شعوب البلدان الأخرى في مواجهة أنظمتها الاستبدادية لست في معرض الافتراض إن هذه الوسائل والتقنيّات قد أشعلت الثورات، وإنّما قد ساهمت في تيسير عمليّات التنظيم والحشد الأساسيّة على مستوى يضاهي حجم الثورة.

من بين الإشكالات الأخرى في بناء الحركة النسويّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الاعتماد المفرط على الحكومات وعلى الجهات الحكوميّة الفاعلة في مجال الإصلاح الجندري، علمًا أن هذه الجهات تعمل في أغلب الأحيان ضمن النطاق الضيّق لحقوق الإنسان وفي سياق خطاب تنمويّ نيوليبراليّ يكرّس ويديم البنى عينها المسؤولة عن الحفاظ على الشكل الهرميّ للسلطة. ويطرح إطار حقوق الإنسان إشكاليّة لأنه يُعتبر بالدرجة الأولى الإصلاح القانونيّ المدخل العريض لتمكين النساء. بالنسبة إلى “زعتري” (2014، ص. 57) يساهم إطار عمل حقوق الإنسان في تكريس البنى الأبويّة وتعزيز مواقع من هم/ن حاليًّا في السلطة، أي أنه وبدلًا من تفكيك هذه المواقع فإن مقاربة حقوق الإنسان تهدف ببساطة إلى أن تصبح جزءا منها. لا يعني ذلك أن المكاسب التي أحرزتها هذه المقاربة لا تستحقّ الثناء أو أنها غير مهمة، لكنّ يجب أن تستخدم كأدوات وألّا تتحوّل إلى غاية في حدّ ذاتها (زعتري، 2014، ص.57). الأهمّ من ذلك هو فشل هذا الإطار من العمل في التعاطي مع مسألة اضطهاد النساء من منظار تقاطعيّ وفي أخذ خصوصيّات السياق بعين الاعتبار. فإقرار الحقّ بالعمل، على سبيل المثال، لن يكون مكسبًا كبيرًا للنساء إذا ما بقيت أماكن العمل مؤسّسات مجندرة وقائمة على التمييز. بتعبير آخر، الحقوق لا تُجزّأ. وبشكل عامّ، فإنّ مقاربة حقوق الإنسان في منطقة لا مجال فيها لتوثيق الانتهاكات أو رصدها أو فرض العقوبات عليها تبدو بلا طائل إذا تمّ الاعتماد عليها وحدها.

بالإضافة إلى ما تقدّم، فإن مقاربة مبنيّة على أساس المفهوم الغربيّ لحقوق الإنسان تغفل بالضرورة الحاجة إلى آليّات متّسقة مع السياق المحلّي للحماية من العنف الممارس على أساس الجندر في الفضاءات العامّة والخاصّة، كما تهمل الحاجة للاعتراف بالحقوق المتعلّقة بالجنس كالحقوق الإنجابيّة. في العامين 2012 و2014، برزت محاولات عدّة من قبل مجموعات المجتمع المدنيّ النسويّة في لبنان لممارسة الضغط من أجل إقرار سياسات تهدف إلى القضاء على العنف الجندريّ. أطلقت كلّ من “أبعاد” و”كفى” حملات تسعى إلى هذه الغاية. وفي حين لجأت المؤسّستان لتكتيكات مختلفة من الحشد، فقد عمدت كلتيهما إلى إشراك الحكومة اللبنانيّة والقيادات الروحيّة في حملتيهما مؤكّدتين بذلك على ضرورة التعاون مع الدولة من أجل الإصلاح الجندريّ. يضع هذا الاعتماد على الجهات الحكوميّة الجمعيّات النسويّة أمام المفارقة الآتية: في حين تسعى هذه الجمعيّات إلى رأب الهوّة التي خلّفها عجز الحكومة اللبنانيّة عن أداء كامل مهمّاتها، تجد نفسها أمام التآكل التدريجيّ لدورها هي كجهة فاعلة على صعيد حشد وتنظيم العمل الجماعيّ الحقيقيّ (متري، 2015). ثمّ إنّ تراجع شرعيّة السلطة اللبنانيّة ومصداقيّتها قد أفسح المجال لمجموعات سياسيّة مسلّحة وقويّة (مثل “حزب الله”) بالتدخّل لملء الفراغ وبالتالي تعزيز شرعيّتها وسلطتها على الشعب اللبنانيّ. بشكل عامّ، أثّرت عمليّة “أنجزة” المجتمع المدنيّ3 في لبنان على قدرة هذه المنظّمات على الحشد على نطاق واسع بسبب القيود المفروضة من قبل الجهات المانحة والتنافس على التمويل وطبيعة النظام الطائفيّ ذي الانقسامات العميقة. ومع ذلك، تحمل ثورة 2019 في لبنان وعودًا وآمالًا في خلق مشهد سياسيّ مغاير ولا سيّما مع تخطّي الانقسامات الطائفيّة في بعض أرجاء المشهد الاجتماعيّ السياسيّ.

3. يستخدم مصطلح “أنجزة” كترجمة عاميّة لمصطلح NGOization، ويشير بحسب السياق إلى تفشي/هيمنة/التحول إلى المنظمات غير الحكومية. تم إدراج هذا التعبير لوصف/الاعتراض على هيمنة قطاع المنظمات غير الحكومية على مشهد النشاط السياسي والحركات الهادفة إلى التغيير الاجتماعي، حيث شهدنا تحولًا في العمل النضالي واستبدالًا للأشكال التنظيمية القاعدية بالمنظمات غير الحكومية، وتوجهًا نحو المؤسساتية والتخصّص في مجالات محدّدة النطاق، بما يغير شكل المجتمع المدني بكليته، بالإضافة إلى ارتباط هذه المنظمات بالتمويل واستراتيجيات الممولين وطرق عملهم، ونأيها عن العمل السياسي في مقابل تقديم الخدمات، وتحول العمل النضالي/السياسي إلى مهنة تقوم بها نخبة تمتلك المهارات والأدوات واللغة التي تتناسب مع معايير التمويل والتخصص والمؤسساتية. (هيئة التحرير)

بموازاة ذلك، تقدّم فلسطين نموذجًا تستعين به “أردا” و”بانرجي” (2019، ص. 23) لشرح كيف جرّدت عمليّة “الأنجزة” النضال الفلسطينيّ من جوهره السياسيّ وصولًا إلى مسؤوليّتها عن تطبيع الاحتلال: “يتمّ التطبيع مع الاحتلال عندما تحلّ مسألة كفاءة تقديم الخدمات العامّة مكان النضال السياسيّ. عندئذٍ تصبح العدالة الاجتماعيّة مجرّد خدمة من الخدمات المطلوب تقديمها بكفاءة عالية، ما يعني بالضرورة العيش في ظلّ منظومة احتلال تتمتّع بالكفاءة تحت إدارة السلطة الفلسطينيّة” (آردا وبانرجي، 2019، ص. 27). ويساهم فرض المثل الغربيّة المتعلّقة بالمجتمع المدنيّ والحوكمة الديموقراطيّة في تشويه صورة نضال الشعب الفلسطينيّ ويكرّس فوق ذلك الديناميّات الإمبرياليّة للسلطة (آردا وبانرجي، 2019، ص. 38). أضف إلى ذلك أن تمهين العمل “المأنجز” يساهم في تحويل أهداف الرعاية الاجتماعيّة إلى وظيفة براتب ودوام كامل، كما يساهم في رفع حدّة التنافسيّة بين المنظّمات التي لا توظّف سوى ذوي وذوات المؤهّلات العالية من الناطقين/ات باللغة الإنجليزيّة وتشدّد على تقييم الأداء بدلًا من التغيير البنيويّ وتحدّد المشاريع في أطر جغرافيّة وزمنيّة (إصلاح، 2009، ص. 38). بالمحصّلّة، فإنّ هذا النموذج من التمهين يؤدّي إلى عدد من حالات الإقصاء وإلى الكثير من القيود بدءًا باللغة ووصولًا إلى عدم تسرّب مساعدات المانحين إلى مجموعات النساء الأكثر تهميشًا.

إن نسويّة الدولة هي نهج تكتيكيّ تعمد الدولة من خلاله إلى تبنّي أجندة نسويّة استراتيجيّة للوصول إلى أهداف سياسيّة خفية، وهي عادة ما تكون تجميليّة أو رمزية ومرتبطة بشبكة معقّدة من المصالح الوطنية أو الجيوسياسيّة الواسعة. يتّضح هذا النوع من الاستغلال للأجندات النسويّة من خلال ما تسمّيه “سكّريّة” “ظاهرة السيّدة الأولى” (2015، ص. 575). فمن خلال تحليل نموذج الملكة رانيا في الأردن أو أسماء الأسد في سوريا، تعمد “سكّريّة” إلى شرح كيفيّة تحوّل هاتين السيّدتين بدءًا من التسعينيّات إلى الوجه الأبرز والتمثيل المطلق للمرأة العربيّة الحديثة إزاء جمهور المتلقّين/يات في العالم على الصعيدين الإقليميّ والمحلّي، ولا سيّما مع تقارب العلاقات بين الأردن وسوريا من جهة والقوى الغربيّة من جهة أخرى. ولم تتعدّ مكانة هاتين السيّدتين وأهميّتهما الأهداف السياسية الخفية المرسومة لهما، كما انحصر دورهما في مهمّات الرعاية وفي المنظّمات غير الحكوميّة التي لطالما اعتُبرت المكان الأمثل لعمل النساء، ما أعطى إيحاءً بالتطوّر والمعاصرة في وقت حافظت هذه المنظومة على التقسيم الجندري للعمل.

في الخلاصة، تواجه عمليّة بناء حركة نسويّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعضًا من الإشكالات التي يقابلها عدد من الفرص. تتّخذ هذه الإشكالات أشكالًا متعدّدة من ضمنها الاعتماد المفرط على الهيكليّات الحكوميّة المتهالكة أساسًا وعلى فاعلين/ات من أمثال المنظّمات غير الحكوميّة التي تعمل في إطار تنمويّ نيوليبراليّ إشكاليّ يساهم في إعاقة أي تغيير بنيوي حقيقيّ. إلى ذلك، يؤدّي الانقسام والتشرذم في المجتمع المدنيّ إلى إضاعة الكثير من الفرص أمام بناء حركة نسويّة لدعم وتنظيم وحشد المشاركين في العمل السياسيّ النسويّ، ما يتيح استغلال الحكومات للنشاط النسويّ ومصادرته. وفي المقابل، لا بدّ من التنبّه بشكل جذريّ إلى الفرص الفريدة المتاحة في ضوء التحوّلات الراهنة والتي من شأنها أن تعزّز بناء تحالف نسويّ إقليميّ قويّ بما في ذلك اللجوء إلى الأساليب الرادعة وإلى النشاط السيبرانيّ لخلخلة المفاهيم التقليديّة عن دور النساء في الإصلاح الاجتماعيّ السياسيّ. وتوفّر هذه الفرص المناخ الملائم لاتخاذ الحركة النسويّة العربيّة موقعها ولتحقيقها غاياتها. علمًا أنه لا بدّ من التنبّه إلى أنّ هذه الطروحات التي أقدّمها لا تعد بالتغلّب نهائيًّا على العقبات البنيويّة والتحدّيات السياسيّة العديدة التي تحدّ من عمليّة بناء الحركة النسويّة في المنطقة، كما لا تتعمّد إغفال هذه العقبات، بل إنّني مدركة تمامًا لوجود هذه المعيقات أمام تحقيق غايات الحشد والتنظيم النسويّين. غير أنّني أسعى في هذا السياق إلى اقتراح مفهوم النسويّة العربيّة كآليّة تحمل قيمة مضافة إلى الحركات النسويّة المحليّة والوطنيّة الموجودة والفاعلة حاليًّا على تعدّدها واختلافها. أي أنّ النسويّة العربيّة سوف تكون مفيدة كمنطلق لا لكونها تستطيع التغلّب على مجمل الإشكالات الحاليّة في سياق بناء حركة نسويّة في الشرق الأوسط، بل لأنّ تأسيسها سوف يساهم في إنتاج قيمة أعلى وقوة وتأثير أكبر ممّا يوفّره الطابع الفرديّ والمذرّر للحركات النسويّة الإقليميّة الفاعلة اليوم.

إعتماد النهج العابر للحدود

يهدف القسم الأخير من هذا النص إلى البحث في موجبات وكيفيّات التفكير ببناء الحركة النسويّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا انطلاقًا من إعتماد نهج عابر للحدود. تنبثق مزايا بناء تحالف إقليميّ نسويّ أشمل، من فهم معادلة : الكلّ أكبر من مجموع الأجزاء. بعبارة أخرى، يحقّق التآلف، في شكل تحالفات وشبكات تضامنيّة في وجه المظاهر التقاطعيّة للسلطة الأبويّة، قوّة تفاوضيّة أكبر وتأثيرًا أعمق وموارد أكثر ممّا يحقّقه العمل النسويّ في صيغته الحاليّة المجزّأة والمذرّرة. فمن خلال المزيد من التنسيق والدمج يمكن القول إنّ الأجندات النسويّة ستتمكّن من إحراز التقدّم بمزيد من الكفاءة والنجاح، ولا سيّما أنّ حشد التمويل ورأس المال الاجتماعيّ والسياسيّ والبشريّ ضمن مجمّع واحد يستفيد منه عدد من المنظّمات النسويّة الإقليميّة من شأنه أن يخلخل شبكات التبعيّة التي تتحكّم بالعلاقة بين المنظّمات والحكومة والمؤٍسّسات غير الحكوميّة الممتهنة للعمل النسويّ والجهات المانحة. كما يساهم ذلك في تأسيس أنماط جديدة أكثر ائتمانًا من التكافل والتضامن والتعاضد بين الجهات الفاعلة الساعية إلى تحقيق الهدف المشترك ألا وهو إرساء العدالة الاجتماعيّة والتغيير النسويّ الجذريّ والمستدام. يتحدّد هذا الهدف الأوسع نطاقًا بصورة جماعيّة من خلال النضال ضد كافّة تدخلّات المنظومة الأبويّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وانطلاقًا من هذا الهدف الذي يرسم الخطوط الأوسع نطاقًا يتمّ وضع البرامج بالتزامن وبالتوافق ويتمّ بناءً على ذلك توزيع الموارد بدءًا من التمويل ووصولًا إلى الموارد السياسيّة. فالفكرة من وضع أهداف مشتركة هي أنّها تدفع جميع الأعضاء إلى إطار من التضامن الفعليّ تحت مظلّة الحركة وتضعهم جميعًا في موضع المسؤوليّة عن الإنجازات كافّة. بهذه الطريقة يصبح في الإمكان توفير الإمكانيّات الملائمة للعمل استجابة لمشاريع محدّدة جماعيًّا ومصمّمة لتحقيق الغايات المطلوبة. ويتولّى جميع الأعضاء المساهمين في مجمّع الموارد هذا تقاسم الموارد وإعادة ضخّها دعمًا لروح العمل الجماعيّ. ومن شأن هذا التجميع للموارد الشحيحة أصلًا تفكيك مفاهيم الملكيّة الفرديّة الماديّة والمعنويّة، وتوجيه الأعضاء نحو مزيد من التآلف حول توظيف الموارد المتوفّرة في سبيل تعزيز القدرة على تحقيق الهدف المشترك. علاوة على ذلك، يوفّر الأعضاء على إختلافهم، أنواعا مختلفة من الموارد. وهذا أمر في غاية الأهمية لأنه يسمح بإستخدام بعض هذه الموارد في إطار المشاريع التي أكثر ما تحتاج إليها. كما يمكن الإستفادة من العلاقات الإستراتيجية التي تربط بعض الجهات الفاعلة، مثل المنظمات غير الحكومية، بالحكومات وذلك لتنفيذ بعض مشاريع الحركة النسويّة.

يساهم تغيير نمط التبعيّة في تحرير المنظّمات من عبء الانصياع للأجندات النيوليبراليّة المعبّرة عن طموحات المانحين من دون أيّ تمثيل أو استجابة للاحتياجات المحليّة. بل ويساهم أيضًا في تدعيم فاعليّة المنظّمات في اتّخاذ القرارات المتعلّقة بالأطر الزمنيّة والتنوّع ونطاق تنفيذ المهمّات. يضاف إلى ذلك أنّ توحيد الجهود من شأنه أن يعزّز عدالة التفاوض مع الجهات الحكوميّة ويقلّل من مخاطر الاستغلال، ذلك لأنّ تعاظم الفاعليّة والحضور والمثابرة من قبل النساء على الأرض، كما ذكرت آنفًا، يحدّ من قدرة الجهات الحكوميّة على مصادرة تلك الجهود.

إنّ بناء حركة نسويّة عربيّة تتميّز بالاختلاف تحت مظلّة العمل المشترك وتهدف إلى تفكيك هيكليّات المنظومة الأبويّة القائمة على القمع والاستغلال، يفسح المجال للتعاطي مع سلسلة متنوّعة من القضايا بأسلوب تعاونيّ، تحديدًا عندما تخطو هذه الحركة بمفهوم النسويّة خارج الإطار الضيّق للعمل من منظور حقوق الإنسان الذي تتبنّاه الحركات النسائيّة اليوم. بدلًا من ذلك، تساهم هذه الحركة في تيسير تبنّي إطار عمل قائم على مفهوم العدالة الاجتماعيّة يأخذ في الاعتبار تقاطعيّة الانتماءات وأشكال القمع التي تقابلها وتنظر إلى القضايا الحقوقيّة كجزء من برنامج أشمل للتغيير الاجتماعيّ. ولا يمكن لهذا الإطار أن ينجح من دون أن يضمّ مجموعة متعدّدة من التموضعات الاجتماعيّة التي تسمح بتكوين فهم أوسع لكيفيّة تقاطع المكانة الاجتماعيّة والهوية وآليّات القمع. وتفسّر “مكلارن” (2017، ص. 118) كيف يمكن لهذه الاستراتيجيّة أن:

تنقل موضع التركيز من الاضطهاد الجندري وحده إلى فهم أكثر عمقًا لكيفيّة تشابك الاضطهاد الجندري مع أشكال أخرى من الاضطهاد ما ينعكس وعيًا لمقدار الحاجة للعمل الجماعيّ للوقوف في وجه العنف البنيويّ المؤسّسي في كافّة أشكاله وتجلّياته المؤسّسيّة وتغيير هذا الواقع.

يتكفّل التحالف النسويّ الإقليميّ بتوفير مساحة لحشد هذه التموضعات الاجتماعيّة المختلفة، ما يجعله متجذّرًا في فكرة التعاون العابر للحدود والحوار وتطبيقًا فعليًّا لما تسمّيه “بولهاوس” “المحفل الإبيستيميّ” (2017، ص. 63)، بمعنى “العمل على استجلاء ما تسعى المؤسّسات المعرفيّة المهيمنة على طمسه باستمرار في سياق التزامها بخدمة المصالح المهيمنة، وذلك من خلال ممارستنا المعرفيّة المتجسّدة والملموسة”. من شأن هذا نوع من العمل أن يزعزع المفاهيم الراهنة الثنائيّة والإمبرياليّة حول العالم. وهذا أيضًا هو نوع العمل الذي يتناول الهويّات وأنها تتغيّر وتستجيب ليس فقط للإصلاح السياسي والإعلام، ولكن أيضًا للمطالب والرغبات والدلالات التي تتولّد من القاعدة، أي من الحركات الاجتماعيّة بعينها (ألكوف، 2017، ص. 44). يضاف إلى ذلك أنّ توحيد الجهود النسويّة وبالتالي تعزيز المجتمع المدنيّ لا يساهم في خلق معانٍ جديدة فحسب، بل يمنع حدوث فراغ قياديّ يؤدّي بالنتيجة إلى التشرذم والانقسام.

أخيرًا، يتيح التحالف العابر للحدود الانخراط في ما تطلق عليه “نيرا يوفال-دايفيس” “السياسة التقاطعية”. يتيح هذا النوع من الممارسة السياسيّة تكوين شبكات تضامن تضمّ مجموعات ذات تموضعات اجتماعيّة مختلفة وفق ثلاثة مبادئ (1994، ص. 193). الأوّل، ينطلق من نقطة المحايثة المعرفيّة وتفترض سلفًا أنّ التموضعات المختلفة تنتج معرفة مختلفة، وأنّه لا يمكن تكوين صورة شاملة ومحيطة عن العالم إلّا من خلال تقريب وجهات النظر المختلفة هذه بواسطة الحوار والتفاهم. الثاني، يستند إلى ممارسة السياسة التقاطعيّة التي تقرّ باختلاف التموضعات وبالقوّة التي تتضمنّها، إلا أنها تتعامل معها بقدر متساوٍ من الاحترام. والثالث يقوم على التمييز بين الهويّة والتموضع والقيمة حيث يمكن للانتماء الواحد أن يسفر عن عدد من التموضعات وفق عوامل أخرى كالعرق أو الطبقة الاجتماعيّة أو القدرة، ويؤدّي ذلك بدوره إلى إنتاج قيم اجتماعيّة سياسيّة مختلفة. من هنا توفّر “السياسة التقاطعيّة” مدخلًا أساسيًّا لبناء الحركة النسويّة العربيّة لأنها تعمل على خلق تحالف من المناصرين/ات على عكس نظام الممثّلين/ات عن دوائر وقضايا معيّنة الذي يساهم في تكريس سياسات الهويّة. تجمع “السياسة التقاطعيّة” إذًا المناصرين/ات لقضية مشتركة من دون تفضيل صوت على آخر باعتباره “الأكثر مصداقيّة”، بل باحترام كافّة الأصوات. ومع الوقت، ينتج هذا واقعًا يتيح لمختلف المشاركين/ات العمل على قضايا ليست بالضرورة جزءًا من واقعهم/ن، وإنّما تستدعي مساهمتهم/ن من منطلقاتهم/ن الخاصة وبناءً على تموضعاتهم/ن وهويّاتهم/ن. كلّ مشارك/ة مهمّ/ة ومسموع/ة ويـ(تـ)ؤدّي دورًا أساسيًّا في مسيرة العدالة والتغيير.

هذا النص هو تطبيق في مشروع التخيّل النسويّ الذي يهدف إلى تصوّر موجبات وكيفيّات بناء مجموعة نسويّة من أجل الـ99 في المائة، “مجموعة شاملة قائمة على الحوار وعلى مبدأ نزع إرث الاستعمار وقادرة على تصوّر آفاق أوسع لفعل التضامن” (موهانتي، 2017، ص. 12). حان الوقت كي نجتمع سويًّا لتحقيق هذه الرؤية.

شاركنَ المنشور