السرد الأنثوي في فيلم “أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها”

                          

ماريا عباس | خاص المنصة النسوية السورية

حين تشدكم الرغبة لمشاهدة فيلم بعنوان مثير ” أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها” اصبروا، خمس دقائق فقط كي تمضي المقدمة بسلام، ثم استسلموا للوقت، وستتولى الكاميرا مهمة التنقل بكم من مشهد لآخر دون أن تفوتكم التفاتة تمرّ سهواً، ستجدون أنفسكم معلقين من ذاكرتكم، الحواس مشدودة على طول الفيلم، جرعة كبيرة من الحنين اللذيذ، ألفة الأمكنة التي لفظتنا، شجون الشخوص الغارقة في حميمية غامرة، أشياءٌ وتفاصيل كثيرة في هذا الفلم الخاص جداً تستحق المشاهدة.

فيلم روائي وثائقي، أقرب للسيرة الذاتية، سرد شفاهي عفوي استطاع أن يوثق لزعيق فظيع لازال يحتل الذاكرة السياسية الاجتماعية السورية اسمها “السجون”.                  

“السجن عطر الحرية”، يا لها من خلطة عجيبة، ليس من السهل المزج بين هذه الثنائية للحصول على عطر فريد من نوعه. إنهُ الإبداع وفن الممكن، تلك الجاذبية المفتعلة بعناية، شحذ الانتباه لقضايا كبيرة ومعقدة بحجم السجون السورية، المنافي الغريبة، والأصوات الخافتة، ومصائر إنسانية شديدة القسوة، إنه العقاب البشري لأخوتهم في هذا العالم المنتفض.

قالتها هالة العبد الله مخرجة الفيلم” إنه فلمي الشخصي الذي تأخر 25 سنة، ورأى النور في عام 2006، بعد صبر طويل لعودة لوطن باتت مستحيلة، أبى أن يكون مسجون مساحة ضيقة في ذاكرة الكاميرا، فخرج فلماً على هذه الشاكلة”.

 “أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها” اسم لفلم، عنوانٌ لقصيدة، وفاء لشاعرة سورية رحلت قبل اكتمال الفيلم، وقبل اكتمال الحبّ بمسافة موجعة، هي دعد حداد التي بقيت ظلال روحها مخيمة على ملامح الفلم بشخصياته من أول مشهدٍ لآخره.

كم كان الدخول مذهلاً، قصيدة شعرية كتبتها امرأة لا اعتيادية وماتت من شِدّة الشعر، في الحقيقة إنها المرة الأولى التي تعلمت فيها كيف يمكن لأحد ما، لامرأة ما أن تموت من شدة الشعر. أزمنة على قيد الذاكرة وأمكنة تخطو خطوها، بحث عن هوية، غياب وفقدان واشتياق وخوف، شجون نساء وأشياءهنَّ الأخرى، تتصدر هذا الفلم الخالي من الألوان إلا البياض والسواد.

نحن نسترجع بمشاهدته تاريخاً آخر يوازي حجم الألم والاستبداد ومعاني الحياة المسلوبة، أما الوسيلة هي الفنّ السردي الأنثوي الهادئ والعميق، إكسير التجارب المتشابهة، تكتفي بالتلويح إليها بذكاء، عامل مشترك أكبر جمع بين شخصياتها هي “تجربة الاعتقال”، ليس من السهل أبداً السير في دهاليزها، وهي المعروفة بصيتها السيء، وما تحثه من تصدعات يصعب ترميمها لمن تجرعّ مرارته.

على الرغم من تجوال هذا الفيلم بعروضه في دول شتى حول العالم، وحصوله على جوائز مهمة إلا إن ذلك لم يشفع له، بل أصبح ممنوعاً عنا نحن المعنيين/ات سورياً بمشاهدته. الفيلم يتناول قضية مهمة، ترويها نساءٌ هنَّ بطلات الحدث، سرد شفهي مؤثر لا يخلو من وجع عميق، حاولت المخرجة التقاط أنفاسهنَّ وشهقاتهنَّ ودمعاتهنَّ، لتتوقف الكاميرا بخشوع مرتجف أمام لحظات صمتهنّ الطويلة، مرور عابر في محطات لحياة معتقلات سوريات خرجنّ من السجن، لكن السجن أبى إلا أن يبقى قابعاً في دواخلهنَّ كصنم عتيد.

 برعت الكاميرا في تنقلاتها بين ترجمة ملامح وجوه شخوصها وتعابيرهم، وبين ذاكرة الأمكنة: جزيرة أرواد، مطار دمشق الدولي، حماة واللاذقية، مدن الجزيرة السورية وموسيقاها، القامشلي، الدرباسية ورأس العين، باريس، شواهد لقبور موتانا، والتفاتة حاذقة ربطت بين تواريخ لمستبدين صنعوا خرائطهم بفرمانات دموية، وتوثيق مرير لسجون تشهد على استمرار الاستبداد والقمع.

 تلك النساء كنَّ بارعات في نقل تلك الأحاسيس خلفتها فظاعة السجون والحياة والاغتراب. الصمت والهدوء، إنها المعاناة حكاية إبداع ثمينة، ضريبتها انتهاك للسلام الداخلي.

لم تكن هالة العبد الله صانعة الفلم /تأليفاً، إخراجاً، تصويراً/ إلا محقة في هذا التفرد الإبداعي، وعنايتها الإنسانية كانت سمة الفيلم وغايته، ولا أعلم إن كانت قد حققت مقاصدها بشكل شخصي فعلاً، لكنني متيقنة تماماً بأن كل مشهد تم تصويره باحترافية إنسانية عالية، كانت كفيلة  السمة بملامسة مشاعرنا بقوة. الأضواء والألوان، المكياج والملابس الخاصة، الممثلين/ات الاحترافيين، الموسيقا والأغاني، كل هذه الأدوات التي عادة يتم ترسيخها لإنجاح أي فيلم احترافي والوصول به لصالات السينما، ومنصات التتويج، لم يتمّ استعمالها ابداً، لعله حرص من صانعة الفلم ومحاولة لنقل الحقيقة بشفافية قصوى، إنه أسلوبها التي تميزت به، وكأنها تقول لنا بعد كل مشهد، لا تنسوا أن تحملوا الزهور إلى قبور أحبتكم!

في أمكنة جديدة، وأزمنة متجددة لم يعد من الصْعُب فيه على الفن الوصول إلى مبتغاه، كأداة لطيفة تفتْحُ أعيننا لنحدق بالبصر والبصيرة فيما يدور، نحرك ذكائنا العاطفي لاستيعاب كل الإشارات والتلميحات المستخدمة في التصوير بدءأ من أصغر تفصيل كصوت أمواج البحر، وضحكة أحد ما، وانتهاءً بدمعة قد تذرفها عين في استذكار لحظة قاسية مضت لكنها لم تنسى.

كنا في حضرة بوح نسوي حميم لهموم نساء لازالت تكبر وهي في تحدٍ مستمر لمواجهة القيم المجتمعية الأبوية الغارقة في رسوخها، السُلطة السياسية وفروعها المتشابكة مع سلطة الدين، لا تبدو المواجهة سهلة بتاتا، حتى إن كانت على شكل محتوى فني إعلامي ممكن أن يصل لجمهور معين، كأداة لطيفة ممتعة، وفي ذات الوقت شدُّ الانتباه لهدف منشود وتوجيه متعمد مؤثر في وعي المشاهدين/ات وتجنب المواجهة المباشرة الصريحة التي قد تفسد من الود شيئاً بين محتوى الفيلم وجمهوره وصانعه.

الوقوف فجأة على سؤال يجبرك أن تتذكر عمرك بثقل، بداية الخمسين لنساء لازلن واقفات في محطة ما، ويتأملن بتحقيق ما عجزنَّ عنه حينها، ليس من السهل التحدث عن سنواتهن المنتحرة ولا التجارب القاسية التي أظهرنَّ مشقة في البوح بها، والقبض على انفعالاتهن قدر الإمكان، هكذا ببطء تام تحدثن عن صخب وضجيج لا يتوقف في دواخلهن، صبرٌ وعناية أنثوية فائقة فضحتها الدموع.

صانعة الفلم لم تتطرق للزج بأسماء الشخوص والأمكنة والتواريخ الفاصلة التي أحدثت فرقاً في الحياة الشخصية والسياسية، ولا تمَّ التصريحَّ عن عدد سنوات السجن وأسبابه، حتى إننا لم نسمع كل الأسئلة التي كانت تطرحها عليهنَّ، لكن الأجوبة العفوية التي استهلكت منا تركيزاً وصبراً للثبات أمام الشاشة في منازلنا كانت كفيلة بتوضيح الكثير من التفاصيل.

 لحسن حظ جيلنا: إننا ننعم برفاهية المشاهدة لمرات عديدة في الوقت الذي نشاء، عبر التطبيق الساحر “اليوتيوب” حد التشبع والشعور بحرية الاختيار لمشاهدة كل ما نحبه، وكان من ضمنه هذا الفلم الذي حرصتُ شخصياً على مشاهدته بنهم امرأة شرقية تواقة لالتماس معاني الإنسانية في نماذج نسوية سورية غيبت لزمن. مُنعت هذه الأفلام التي تعنينا، وتعرض قضايا مهمة، كالسجن والتغييب كقضية أساسية في تاريخ سوريا. نساءٌ ملهمات ومؤثرات، هموم الذاكرة الجمعية السورية، استعادت ذروة نشاطها بعد الثورة السورية.

فاديا لادقاني.

إحدى شخصيات الفلم، بدت كامرأة خمسينية غارقة في هدوئها ورزانتها، كطفلة صغيرة شجاعة تسرد بعفوية ولامبالاة مفتعلة تعريفاتها الشديدة الخصوصية والحساسية في الحياة كانت كفيلة بتلك العزلة والانزواء. التجربة التي استطاعت نحت شخصيتها وصقلها على هذا الشكل الذي جعلنا نتماهى معها في كلمة نطقتها، وأعادتنا إلى تلك القوقعة اللعينة التي نريد التخلص منها، أعادتنا إلى انكساراتنا، تعاطفنا معها ومع أنفسنا.

تحدثت في سبع مشاهد قصيرة عن الموت، وعن وقوفها عاجزة عن نشر كتاباتها وتأملاتها وهي التي أتقنت مهارة حمل القلم بيدها منذ طفولتها.

تحدثت عن الألم الذي يعجز الإنسان عن تعريفه، عن العلاقة الشائكة بين الروح والجسد

“بعتقد إنو الألم الشخصي هو واحد من الظواهر الطبية اللي كتير معقدة، لأنو مالها قيم معيارية واحدة، الألم شخصي وذاتي، حتى الألم الجسدي، تحمله أو عدم تحمله، إيمت بنصرخ، وإيمت لا”

فاديا أبدت شجاعة ومرونة بالتخلص من المصير المأساوي، ودخلت في حالة إنكار عمرها الخمسين، كأنها طفلة حالمة لديها الرغبة في استرداد ما فات منها. كانت فاديا بارعة بصدقها وشفافيتها، واختصرت ما ينتاب السوريين/ات في بلاد اللجوء، مشاعر الذنب التي تبقى عالقة كحمل ثقيل في رقاب الإنسان الناجي من كارثة جمعية ألمت بالجميع وقضت على الكثير منهم، واعتقد ان هذا الشعور يلازمنا غالبا لأننا نحمل صفة الإنسانية.

 رولا الركبي

تلك الشخصية النسوية بامتياز، لم تكنّ أقل بلاغة من مثيلاتها وهي تسرد بثباتها وإيمانها بقدراتها ورغبتها في إحداث تغيير ما، حدث سياسي أو إبداعي له علاقة بالكتابة والتدوين، رولا لم تتوانى بالإشارة إلى تمردها المبكر وهي تسرد حكايتها كامرأة شرقية، ودفعها ثمناً باهظاً من عمرها لقاء ذلك، وخسرت الكثير من أحلامها وطموحاتها، لم تستطع أن تكون حازمة منذ البداية في الاختيار بين إرضاء مجتمعها المتشبع بقيمه الذكورية وبين خياراتها الشخصية وتوقها للعيش امرأة حرّة. غلبتها العاطفة واجتاحتها دموعها عنوة، واستسلمت للبوح بانفعال رزين، لكنها سرعان ما استعادت ثقتها بقوتها، واصرارها على متابعة الحياة. عبرت بحميمية خالصة عن حالة إنسانية عميقة، تشتكي وجعاً يؤرقها في البحث عن هويتها وجذورها التي تشدها لهناك، إنه شعور الفراغ الذي يأكلها، إنه الحنين الذي يعشعش في قلبها وينغص عليها حياتها، حيث تركت خلفها ما تحب” وقت طلعت من البلد، وقت كنت بالمطار شميت ريحة الأرض، وقت تشتي الدنيا بحماه قدام بيتنا، هداك التراب المشقشق وقت بيعطش بالصيف، وقت بيجيه المطر بتطلع ريحتو… مابقدر عيش هون، هي الريحة خربطتلي كل مسار حياتي”

إنهُ القلق والخوف يرافقانها. الارتجاف والخنقة في نبرة صوتها يكشف عمق الألم الإنساني.

“ما في أمان بالعالم، الموت هو الأمان الوحيد”.

راغدة عساف

الطبيبة النسائية السورية، كانت الوحيدة التي عرفتنا عن مهنتها حين استرجعت بابتسامة دافئة واصفة سعادتها لحظة حملها للمواليد الجدد في لحظاتهم الأولى، بعد ولادة لكل امرأة قادرة أن تهب للحياة ثمرة لياليها المجنونة بكل آلامها. أبدت من صلابة في التعامل مع الحياة ومصاعبها، لكنها استسلمت لثقل اللحظة، وتذكرت حجم انكسارها النفسي.

أشارت لزاوية خاصة لم ترغب المجاهرة بها أمام فوهة الكاميرا.

“كل حدا عندو زاويتو الخاصة اللي ما بيحب يحكي عنها” زاوية يجب أن تبقى طوباوية، لكن لا ضير من الاستسلام للبكاء حين يلامس شيء ما تلك الزاوية وينخز صمتها.

 لكن سرعان ما تعود لصمودها ” الانكسارات الشخصية لم تزدني إلا قوة”

 لحظات الصمت عند راغدة كانت مثيرة بحدّ ذاتها، وبرعت المخرجة في اقتناصها وتحويلها لصالح الفيلم بطريقة مؤثرة، متعة التأمل بالصمت، نعيش المشهد ونترقب حديثها بشغف “عم بتذكر كيف الواحد لما بيطلع من السجن أول أيامه، أكيد مجربتيها”.

 لها رؤيتها الإنسانية في أحقية الجميع بالكرامة والحرية والحياة الأفضل بغض النظر عن أي شيء سوى إنسانيته.

ليلة يوسف عبد لكي

الفتاة اليافعة، الفرنسية لوالدين يحملان الجنسية السورية، هي ابنة هالة العبد الله مخرجة الفيلم والفنان يوسف عبد لكي، ليلة ثمرة الحب والحرية، في مشاهدها وبلغتها الفرنسية، عبرت عن وعي سابق لأوانه، عن شغف القراءة، جرأتها في طرح آرائها، وكيف يجب على المرء أن يبدأ أولاً بتطبيق كل ما يؤمن به من مبادئ في منزله، وذكائها في الربط بين ما يحدث في الشارع من مظاهرات ثورية تندد باستبداد السلطة في سوريا، وبين ما يجب أن يتعلمه الآباء والأمهات ليكونوا ديمقراطيين أولاً مع رغبات بناتهم وأبنائهم.

فكرية ميرو

 إنها المرأة الأرمنية، وتلك حكاية أخرى من حكايات الظلم واستبداد السلطة العثمانية وتاريخهم الدموي، إبادة الأرمن وارتكاب المجازر بحقهم. امرأة أرمنية ابنة امرأة حالفها الحظّ حين خبأها أحدهم تحت عباءته المصنوعة من صوف، حين هروب من الموت الوشيك. شاهدنا تلك المرأة توثق كارثة إنسانية بعفويتها، بغضبها ونزقها وحزنها وشعور الاغتراب والوحدة الذي ذكرته في المشهد الحي، استعادت وجه أمها وعزلتها وصمتها اللذان أثرا في كل بناتها وأبنائها، أمها الناجية الأرمنية التي قتل العثمانيون 35 شخصا من عائلتها أمام عينيها.

وفي مشهد فارع لنساء معمل التبغ في اللاذقية، مشهد لا يتجاوز بضع دقائق لمعمل كبير، كان للتبغ السوري ذاكرة، تم توثيقه قبل ثلاثة أو أربعة عقود، كان يضم مئات النساء والفتيات العاملات السوريات، وهنّ يعملنَّ بصمت، وزعيق الآلات يطغى فوق كل الأصوات. للوهلة الأولى نعتقد بأننا أمام مشهد لإحدى المصانع الألمانية، إنه المشهد الذي غاب عنا طوال سنوات حياتنا في بلادنا، حين كنا غرباء عن بعضنا، فصنعت منا غرباء اليوم في بلاد اللجوء.

المشاهد الرومانسية الأخيرة

حيث يحلَّ البوح الشجي فيثأر بالصمت ويخرج حديث منتظر من عزلته، تستلم هالة العبد الله دفة الحكي، لتخبرنا عما كان مسكوتا عنه في مشاهد الأخريات، حيث الإصرار على الحبّ والتحليق في رحابه، ما استطاعت كل أسوار السجون العالية وقضبانها الصلبة، وأبوابها الحديدية، ولا برودة المكان أن تطفئ نار الحب في قلبها، بقيت كأنثى متمسكة برغبتها والبحث عن رجلها الحبيب المفقود أيضاً في السجون، حولت الزنزانة لقصيدة ساحرة نسجتها من خيوط لا مرئية وبثت فيها من روحها، استخلصت من سجنها عطراً أسمته عطر الحرية.

تلك المغامرة العجائبية، وبحثها عن ظلاله “يوسف” في وهم الحياة المسجونة، لها أبجديتها الخاصة صنعتها من كسرة مرآة كانت تعادل بهجة نساء وعاشقات، عبر ثقب وحيد يتسلل منه ضوء قلبها وشمسه، كم كانت تلك الرغبة الشبقة للحب والحياة عارمة، تعانق روحها فتشبعها، تلك الطاقة منحتها قوة فريدة دون الأخريات، شجاعة البوح عن سرّ حميمي، هذا الجانب الأنثوي الرهيف الذي لم تستطع السجون دحره ولن.

 ” أخيرا يسمع صوتي، ويستوعب يوسف جنوني، أحكي مع رجلي، أمد يدي وامدُّ ذراعي بالخروج من النافذة راغبة في أن ألمس يده، لكنه لا يفعلها، لا يسمح لنفسه بذلك الترف، لأن رفاقه أيضاً لم يلمسوا امرأة منذ شهور…أعود إلى سجني، لم أعد مصابة بالمرض، أصبحت مصابة بالخيبة”

ينساب صوت دافئ ليتغلغل إلى دواخلنا، في محاولة لطيفة منها لتختم فيلمها الشخصي بحضورها العفوي كبطلة أخرى تنضم لشخصيات الفيلم اللواتي تجمعهنَّ تجربة مشتركة، تحولَ الفيلم لسمفونية حبّ وشعر:

“السجن عطرُ الحرية

يُداعبُ رئتيَّ هواءٌ خفيف ورطب

أُغمض عينيَّ، أرمي كلمة سجن في عروقي

ألحق بها…

أتفرج على انعكاساتها في مجموعة مرايا من خلاياي

إنني لا أري سوى عيون، عيونُ امرأة شابة مليئة بالقوة والفضول

كم أنا امرأة غريبة

فترة كهذه من الانغلاق، البعد، الجفاف

تجعلني أسبح في فضاء من حرية ناعمة وحنونة

تجعلني أركض في حقل قمح أصفر وأخضر

حقل احتفظ فقط بلون وصوت سنابله

التي اختفت لتترك المكان لجسدي

هذا الجسد الخفيف الذي يركض وهو يلبس فستاناً أكثر خفة منه

فستانا من حرير أبيض يطير وهو يحملني معه حين أسمع لفظة…سجن”

هالة بنضالها الطويل، سخّرت أدواتها الفنية عبر السينما الروائية الوثائقية والتجريبية، كانت المرآة العاكسة لتجربة قاسية، تجربة المعتقلات السوريات في سجون النظام. حملت بيديها ضوءاً ومكبرة صوت، وبرعت في عملية التحديق، لوجوههنَّ عن قرب، والإصغاء لأصواتهنَّ. أوقفتنا معها نتماهى مع مرايانا، تأملنا سوياً تجاعيدنا وملامحنا، إنها أوسمة لصبرنا وعلامات تمردنا.

رغم البعد عن المؤثرات الصناعية للسينما، كان ملحمة لألم إنساني مستمر، وإبداع سينمائي أوصلها بجدارة واحترافية لنيل جوائز. أصرت في حمل الوفاء لروح شاعرتها دعد حداد الغائبة للنهاية.

في محاولة لحمل الزهور إلى قبرها، وهي التي بكت من شدة الشعر

إنها ابنة الشيطان، ابنة هذه الليلة المجنونة…ابنة وعيي وصديقي أنا.

ليتوقف الكلام تاركاً للوجع نتلذذ به سوياً، بالخمر الذي يسري في شرايينا، ينتهي الفيلم، ونحن هناك نصغي لحديث البحر والصخور والطيور، ومارسيل خليفة.

شاركنَ المنشور