أمل حويجة: تذكرة العودة

أمل حويجة| شبكة المرأة السورية

لم يقل لي لنسافر معاً كعادته، ولم أقل له: “حجزت تذكرتين؟”، كلانا على ما يبدو بحاجة لهذا.

الابتعاد ومرض صديقنا لم يكن يستدعي السفر، لكنه جاء إنقاذاً من حروق رتابة بدأت تهلكنا.

دقائق انتظارنا لتكسي المطار كانت فارغة من أي كلام، تقاطعت نظراتنا في لحظة أوجزت اعتذاراً، تلبساً بالتخلي. توصيات تتزاحم  عند وصول السيارة: ” لا تنس الدواء، نظارتك والموبايل”. وتسقط  قبلتان على الخد كاد يخطفهما الهواء. سرقت نظرات على محلات شارعنا، من لاحظ حقيبة السفر وهذه المرأة “أنا”، التي  لم تُر إلا معه منذ سنوات؟

تجاوزت بنايتنا وكأنها لا تخصني، دخلت في حي آخر تلبية لدعوة الشمس الدافئة، رعشة هزت قفصي الصدري، البيت صار فارغاً؟   أنا وحدي؟ ليس في أثينا فحسب بل في اليونان بأكملها؟ اشتريت ملابس لم أكن بحاجتها، وعند دفع الحساب أرعبني ما بقي في جزداني. أعرفني في مواجهاتي مع الوحشة، سأفاجئ نفسي. مشيت لساعات كي لا أعود  إلى المنزل.

صعد بي المصعد بصرير لم أكترث له من قبل. قفلت الباب بطقتين. ترى هل شعرت جارتي بوحدتي؟ جارتي التي تترصد انعكاس ظلنا على نوافذ البناية المقابلة، تصطادنا! لوعرفت بسفره،  هل ستسلط علي تلك الذبابة الشرسة التي لا أراها إلا في لحظات صفائنا؟ أُطمئن هواجسي: “أنا كأمي لم أصدق أفعال الشعوذة يوماً”. أفتح الشرفة، ألجأ إلى فيروز. اعتاد أهل الحي سماع الطرب العربي من بيتنا كل مساء. وصلتني رسالته قبل انطلاق الطائرة: “اشتقت لك”… كادت تنفر دمعتي، وبدلت: “سألحق بك”، بـ”استمتع”.

اتصلت بأختي في كندا ثم بصديقاتي في ألمانيا، فرنسا ودبي، وكي لا تقلقني فيما بعد رسائل إطمئنانهم لم أخبرهم بسفره.

هدأت المدينة وبقيت سيارات الإسعاف الخاصة بالمشفى الذي يجاورنا  تزعق بذات الرتابة والذعر.

نزعت الأوراق التالفة عن ورودي، كما أفعل كل يوم، أؤمن بأن الورد يعرف متى تكون  عيون اصحابها غائبة.

نباح كلب جارتي في الطابق العلوي أقلقني. أقفلت الشرفة، رجعت إلى العين السحرية، لا شئ سوى الظلام، وقفت حائرة أمام التلفاز، تنازلت عنه له منذ سنين، فتحت المحطة الإخبارية التي كان يتابعها صباحاً ثم انتقلت إلى غيرها.

شعور لذيذ أن تتمدد الساقان بكامل راحتهما، أن يستلقي الظهر دون وجود منافس، لا أدري لمَ لمْ نقتن صوفا ثانية؟ تقصدنا شراءها عريضة كحل مؤقت ولم نتوقع أننا سنختصر المنزل كله بها! نتوازى عليها كقطعتي حلوى، يسند ظهري بقدميه ويضم ساقي، نتعب، نتجعلك برفقة فيلم أو مباراة.

رن الجرس، من؟ سكنت، لست على موعد مع أحد، لن أفتح.

خطوات على الدرج ثم محادثة بين جارتي ورجل الإتصالات، خطأ في العنوان إذاً.

بحثت عن فيلم مريح، اخترت فيلماً قديماً لـ”توم كروز”، حضرت شاياً يونانياً أسميه “أفرديت”، تقول الأسطورة أنه أشفى ولدها من مرض مهلك. تجاهلت فوضى المنزل.

أنا لا أقتنع بمعتقدات الخوف من السفر ومع ذلك أمارسها. لا أكنس، لا أغسل، لا أمسح حتى وصول مسافري بالسلامة. ما يميزني عن المتطيرين أني لا أروج لها، أفعلها بالسر وكأنها خطيئة. رغبت أن أدون هذا الهبل و لم أفعل.

قفلت غرفة النوم بعد رسالته المطمئنة من مطار فيينا، اخترت النوم في الصالة على الصوفا، تحققت من القفل، سندت الباب بكرسي. لا أحب أن أفاجأ كما فوجئت  الملكة- إليزابيث- بذاك الرجل واقفاً فوق سريرها في مسلسل”the crown”.

وضحكت.

لا أحب الغدر.

تابعت حلقتين منه دون ان تغيب عني حركة المصعد، أصوات الحي البعيدة والقريبة … ونبضي!  فتحت دفتري، قرأت: “عندنا شمس، تعالوا”.

أدعو أصدقائي البعيدين إلى شمس اليونان وكأني أدعوهم إلى مشوار خلف قلعة دمشق أو صحن فول في قمة قاسيون.

سحبتني الشمس بعد سفره إلى دار الأوبرا، سيخفف عني موزارت وحشتي حتماً، كنا نخطط لحضوره منذ أشهر، ويا لتلك القشعريرة التي هزت عمودي الفقري عندما اكتشفت انقضاء مواعيد  هذه الحفلات.

ركنت الدفتر جانباً وصورة الملكة ثابتة على الشاشة في “بوتها الكاوتشوكي”، وإشارب ترتديه كما كانت ترتديه أمي ورفيقاتها، يغطي الرأس وينتهي بعقدة تحت الذقن، أحببتتها بهذه الهيئة ربما لأنها بدت أكثر بساطة وأقل تكلفة، أقرب للبشر الطبيعيين. طالما خططت لأن أعيش مع زوجي  لكل منا  سرير، مطبخ، بيت، كما هو الحال عند الملوك.

لا أعرف كم مضى من الوقت وانا أحدق في الشاشة، لا  أسمع، لا أرى.

أرهقني النعاس، خشيت من الاستيقاظ هلعاً على ضجيج عودة  جارنا من عمله في الثانية، خففت الإنارة وانتظرت مع المسلسل الملكي. عند سماع  طقطقة المصعد واندفاع المياه في تمديدات مطبخهم شغلت فيديو النوم ” ثلاثة مائة جملة تعلمك اللغة الإنكليزية”.

سبحت في ضباب  مفرداتٍ بصوت مؤدٍ رتيب وصورِ متناثرة، يوغا وأغنية كأنها بصوتي وضحكته. “الإنكليزية لغة العابرين”.

رُفعتْ السجادة، زُحزح الأثاث، دُفعتْ- الصوفا- إلى الشرفة.  جارتي  تطعم قططاً في الشارع، لوحتْ لي،  أشارت إلى الكتب، تريدها لأنها تتعلم العربية. رميتهم لها كتابا كتاباً، ناديت: “يا جارتي والله  أحبك، وأعتذر عن أي سوء فهم حدث بيننا”. ماءت قططها بشراسة، رميت أغطيتي مذعورة.

لا قطط ولا مواء، تكات الساعة فقط، رقبتي توجعني، ما هذا الحلم؟

إنها الخامسة، كيف أمضيتِ يا أمي عشر سنوات وحيدة؟ وكيف تحملتِ عبء زوجة الزوج جارة؟

نامي يا أنا، نامي، نامي. كيف أنام وصباحي حل؟ هو يحب الليل وأنا ابنة الصباح، هو تنازل عن ساعتين من الليل لأجلي، وأنا عن ساعتين من الصباح لأجله. أضفت “السوس” الذي لا يحبه إلى ابريق “متتي” وقررت طهو” الكشك” في غيابه و”هريسة القمح”.

ثرثرت مع أفكاري، لم تكن هي  تنازلات مني كإمرأة فهو أيضاً حرم نفسه من الكبدة، من الجلوس طويلاً في المقهى، من متابعة أفلام الجرائم الغامضة. تشاركنا متشابكين في عادات كثيرة بلا أي احتجاج أو شعور قهري.

تتشابك أصابعنا ونحن نتابع فيلماً في السينما، أذرعنا ونحن نجري مساء، قبعاتنا على طاولة الكافتيريا، معاطفنا ونحن نودع أصدقاء كنا في زيارتهم. أنتبه إلى أننا عبر عشر سنوات من انتظار العودة إلى أهالينا في الشام اعتدنا على الحركة معاً كشبكة وكأن استقلاليتنا مؤجلة. نحب ونتحارب متشابكين، نتدافع على المجلى، أمام بوابة الثلاجة. ننحشر في بوابة المصعد معاً. تشتبك أظافر أقدامنا في البانيو ونحن نجري فيه أطول النقاشات وأعمقها، متشابكين ونحن نقرر أن يهوى غيري وأن أهوى غيره! لا سعداء، لا متذمرين ولا متعبين.

لا متعبين؟ أسأل جوريتي التي تحزن عندما نغيب.

لمَ لمْ نحجز تذكرة العودة؟ تمرين على الفِطام؟ فِطامَ! انفصال؟ انتهى الانتظارُ واستسلمنا؟

شاركنَ المنشور