سليم البيك| القدس العربي
حين يخبر أحدنا آخرَ بأفضل أفلام مرّت عليه، أخيراً أو دائماً، لا يشعر الآخر بضرورة اتخاذه لتلك الأفلام مثالاً، أو حتى بالنقاش لضرورة إسقاط أي منها. فحديث كهذا يتخذ، لطبيعته، مساراً ذاتياً لا يجد أحدنا نفسه مضطراً لتبنّي أو نفي أي عناوين منها، كما أنه لا يرى حاجة في الإقناع بما هو مختلف عنها.
لنوسّع الحلقة قليلاً، ونتحدث عن استفتاء مجلة «سايت آند ساوند» البريطانية، التي تصدرها مؤسسة الفيلم البريطاني (BFI) الذي تجريه كلّ عشر سنوات، وخرجت نتيجته الأخيرة هذا الشهر، بلائحة جديدة ستستقر لعقد من الزمان.
وقد كان للاستفتاء 1639 مساهماً، بين ناقد ومبرمج وأكاديمي ومتخصّص، كان لي مساهمتي من بينها مسمّياً عشرة أفلام أراها الأفضل تاريخياً، أشرت لها في مقالةٍ هذا الصيف («القدس العربي» 23 أغسطس/آب).
استفتاء كهذا، وبتاريخه الممتد منذ عام 1952، يمكن أن يعطي لمحة عامة عن أفضل الأفلام في التاريخ، لكم ونوع الآراء المستفتاة، وهي ليست هنا كما في أمكنة أخرى يعتمد بعضها على الزوار (IMDB) وآخر على المشتركين (MUBI). اعتماد لائحة BFI تحصر المستفتين بمهن معينة، وتختار الأسماء المطلوب منها المساهمة، بشكل شخصي، وذلك كل عشر سنوات، فتكون الأفلام المرشَّحة من قبل المساهمين قد نالت زمنها اللازم لتثبت أهليتها.
بعض أفلام المراتب الأولى مثلاً، لم تنل تقييمات عالية في زمن إنتاجها، لكن كل ذلك لا يمحو الفكرة الأساس التي بدأت بها المقالة، وهي أن أحداً منا غير ملزم برأي آخر وذوقه وأفضلياته، ولا حتى برأي مجموع آخرين وإن كانوا كثراً وكانوا متخصصين في موضوعهم. فلكل منا ذائقته وأولولياته ومعارفه واختياراته.
تتيح لنا هذه المقدمة الدخول بأمان إلى اللائحة الجديدة، وفيها تغييرات لافتة، أهمها فيلم المرتبة الأولى، وقد قفز من بعيد، من المرتبة 36. لا هو متداول من بين أوائل أفضل الأفلام في التاريخ، في أي لائحة أخرى، ولا هو لواحد من الأسماء الكبرى للسينمائيين. الفيلم لمخرجته البلجيكية، شانتال أكيرمان، وبعنوان هو عنوان منزل الشخصية الرئيسية «Jeanne Dielman, 23 quai du Commerce, 1080 Bruxelles1975» يُختصَرلـ «جان ديلمان» (1975) أتى دافعاً «فيرتيغو» (1958) لألفرد هيتشكوك إلى المرتبة الثانية، بعدما كان أولاً، و»المواطن كين» (1941) لأورسون ويلز إلى الثالثة بعدما كان ثانياً. الفيلم الممتد لأكثر من 3 ساعات، يصوّر ثلاثة أيامٍ من حياة امرأةٍ بورجوازية مع ابنها في بيتها في بروكسل، تمضي الوقت الصامت والمتأمل بأشغال البيت والمطبخ، لتستقبل زبائن، ما بعد الظهر، لتقدّم لهم خدماتٍ جنسية.
الفيلم قدّم نوعاً آخر من الأفلام غير المعنية بما يمكن أن يُعتبَر وقتاً مهدوراً على الشاشة، الوقت الذي يدرسه هيتشكوك ثانيةً بثانية لاحتمال زيادة في جرعة التشويق، وهو الوقت الذي لا يكون دون وظيفة فنية وجمالية في سياق الفيلم وحكايته، لدى ويلز. الوقت في الفيلم الجديد، في مرتبته، كان أقرب إلى نوع الزمن كما يطرحه ياسوجيرو أوزو في فيلمه الذي حلّ رابعاً بعدما كان ثالثاً، «قصة طوكيو» (1953). لكن في وقت كان التأمل لدى أوزو فلسفياً وجمالياً، كان لدى أكيرمان في فيلمها هذا سياسياً اجتماعياً ونسوياً. فكان لا بد من إطالة فيه ومن مباشرته لإثارة نوع من رد الفعل. هو تأمل في اليومي، هو طرح لحالة اضطهاد جنسي وجندري، من خلال مراقبة عمل منزلي يكون له عند أحدنا صفة العادية، العادية التي تجعل أحدنا يمر من أمامها دون انتباه.
قفزة أخرى شهدتها اللائحة وهي لفيلم In The Mood For Love، لوونغ كار واي من هونغ كونغ، فقد وصل إلى المرتبة الخامسة آتياً من الرابعة والعشرين، وهو أحدث من سابقيه (2000) وهو كذلك ذو طبيعة تأملية إنّما تحل الموسيقى محل الكلام، في مشاهد كثيرة، بدل ضجة العمل المنزلي كما في فيلم أكيرمان، ولموضوع كل من الفيلمين مبرره في ذلك، في واحد هو علاقة حب بين جارين وفي الآخر روتين يومي ممل.
قفزة أكبر من سابقتيها، كانت لفيلم Beau travail، للفرنسية كلير دوني، وقد وصل إلى المرتبة السابعة، آتياً من الثامنة والسبعين، وهو كذلك من الأفلام غير البعيدة زمانياً (1998) وهو كذلك تأملي إنما في معناه، وهو مكمل للفيلمين السابقين في تصويرٍ ينقض الذكورية المضطهِدة في الفيلم الأول والهشّة في الثاني والفائضة هنا في الثالث، وبصورتها العسكرية، المدانة لذلك.
في شكله وأسلوبه المختلفين عن كل ما سبقه ولحقه، كان للأمريكي ديفيد لينش كذلك قفزته، بفيلمه Mulholland Dr الذي أتى إلى المرتبة الثامنة، من الثامنة والعشرين، وهو أحدث أفلام اللائحة حتى المرتبة 29، لإنتاجه عام 2001. وهو مختلف عن باقي أفلام القفزات، كما هي عموم أفلام لينش التي يصعب تشبيهها بغيرها لأسلوب لينش الخاص، أما موضوعه فهو هوليوود ومدى كابوسية الأحلام الجميلة فيها، من بينها حالة تحرّش بامرأة تطمح لتكون ممثلة.
في اللائحة الجديدة وأفلامها الأولى وقفزاتها ما يقال أكثر من ذلك، إنّما أبرز ما يمكن ملاحظته في تغييراتها، كانت القفزات في أفلام حديثة نوعاً ما، ما يمكن أن يشي بتغييرات أكبر في اللوائح التالية، لتبتعد أكثر أفلام كلاسيكية كانت مستقرة في عروشها، وكانت دائماً سابقة لغيرها في حديث أي منّا، وتحل محلها أفلام يكون التقدير النقدي لها أكثر إحكاماً مع الزمن. أما قفزة المرتبة الأولى، فهي هنا معتبَرة، والأشد في معناها من بين كل تنقلات الأفلام في تاريخ اللائحة الممتد لسبعين عاماً، الفيلم هنا، نسائي في صناعته ونسوي في مقاربته، في مجال فن وصناعة وتجارة هو ذكوري بامتياز.