أحلام أبو عساف: المرأة والعنف اللفظي المبطّن بالذكورة

أحلام أبو عساف| شبكة المرأة السورية

لفترة غالباً ما كنتُ أسمع تلك المقولة، هنا وهناك “مناهضة العنف ضدّ المرأة”، لا بل أذهب لأبعد من هذا بقولي: “الله لا يقيمها كل امرأة بتخلي رجل يضربها”. لكن في الآونة الأخيرة، شاهدتُ وسمعتُ عن حالات طلاق بين الأزواج، لم يستعمل أحد منهما ولو ضربة كفّ، أيضاً أرى بعض الفتيات والنساء في عِداء محكم لبعضهن البعض، عن طريق تصرّفات غريبة لا تمت للأنوثة  بصِلة، مثل الكلام البذىء المبتذل في التعامل مع بعضهن البعض.  استغرب ذلك وأقول: “مٓن و متى جعلونا نخجل من أنوثتنا، ونتصرّف برجولة خرقاء، فنبدو بشكل مضحك مبكي؟ لأعود إلى جذوري متذكّرة ما زرعاه والديّ من فكر في عقلي الباطني، منذ أن أدركت أنّي أختلف عن أخي الذكر. بقيتُ ردحاً طويلاً من الزمن، حتى أدركتُ أنني في طريق الذكورة ماضية بلا هوادة.

إذن… ماذا هناك، وهل يوجد تعريف آخر للعنف؟ في هذا العام، امتلكتُ الجرأة كي أبوح ببعض مكنونات الطفولة عندي، وعند الكثير من أترابي الفتيات من لا صوت لهن، فقد استحضرتني حالة من أوجه العنف، قد تكون للبعض لا تساوي شيئاً، ولكنها طبعت حياتي بالكثير من المنغّصات، وتدخّلت في أحايين كثيرة، لتغيير مجراها بشكل يبعث على الكآبة.

كانت ذاكرتي مملوءة بأفعال لفظيٌة وليست جسدية، مورست عليّ وعلى الكثيرات عن حّسن نيّة قد تكون، فأول مَن مارس العنف ضدّي للأسف كان والديّ، عندما انجرّا خلف مقولات ظالمة ومتوارثة عن الذكورة، في قرية تتباهى فيها الأسر بعدد ذكورها، لتركن الإناث في زوايا مظلمة وتكون إكمالاً لعدد هذه الأسر. مما يجعلهن في الغالب خدماً لذكور العائلة، يتدخل الجميع في  ردّعهن إذا ما اختلّ توازنهن، فهنّ مسؤولات عن شرف العائلة. لتقوم الأم بتكريس هذا المبدأ والدفاع المستميت عنه. وحينما تكبر الفتاة، وإذا ما  فكّرت الانسلاخ عن قطيع المعتقدات والصورة الذهنية المكوُنة حولها، تجد الكثير من المقاومة من الإناث أنفسهن ونعتها بأقبح الصفات. هذا يجعلني أنادي بالثقافة المجتمعية الصحيحة، ومعرفة ذواتنا كنساء وافتخارنا بدورنا في بناء الإنسانية، فهي منقذ لهكذا حالات. حتى أن المرأة على ضوء ثقافتها تتقن فن التواصل مع الأخرين وتخفف عبء التنمر الموجه إليها، وإذا لم تتسلح بثقافة مجتمعية تساعد على تحريرها من ربق عبودية الأفكار، يتحول تمرّدها إلى عنف جسدي، تكون هي الخاسرة والضحية فيه.

وبالعودة إلى ذكرياتي الطفوليّة أقول: “أول من مارس العنف ضدّي وفي وقت مبكّر من هذه الطفولة كفتاة كما أسلفت، هما أبي وأمي. فقد أراداني أن أكون صبياً، يوم لم يكن أجهزة  إيكو تكشف نوع الجنين قبل زمن الولادة، فصُدمت أمي  المسكينة بولادتي، فأنا أصبحتُ البنت الثالثة في ترتيب الأسرة، رغم جمال منظري، أعطتني مباشرة إلى خالتي حال أعطوها إياني،  بعد أن أدخلتُ الخوف إلى قلبها. ومنذ تلك اللحظة تعاظم غُبن أمي وخوفها وانعكس على معاملتها معي، فانتقل غبنها تدريجياً إلى روحي جاهلة سبب معاملتها الفظّة، وبدأت معاناتي معها. وللآن أقنعها بأني أنثى حساسة، مشاعري تتجه أكثر للأنوثة، إلاّ أن عقلها الباطن يرفض أقوالي هذه، وتصرّ أن تلبسني ثوب الرجولة في كل موقف صعب يواجهها أو يواجه العائلة. خاصة بعد سفر أخوتي الذكور .فكما يقال “تضعني في بوز المدفع” … لماذا ؟لأنني قوية، مردّدة دائما هذا على مسمعي ومسمع الجميع. وأنا يا أنا كأنها تحرث في الماء، أصارع رافضة هذا اللقب، بقيتُ طوال حياتي أتحدّاها. كما أنني بقيتُ أقنع والدي كذلك  طوال حياته، وقبل مغادرته هذا الكوكب بأنني من الصعب عليّ أن أقوم بفعل الرجال في لحظات، فيتأفف وينعتني بالكسل. كان لا يستجيب  لتوسلاتي، فيكلّفني بمهام الصبيان، ويعطيني ثقته التي فاقت الثقة بأخواتي، حتى بأخي الذي تلاني في الولادة. والذي كان يفرِض عليه والدي تجنّب الاحتكاك معي ومخالفتي. وبنفس الوقت إذا ما أراد الاستراحة من هذا اللقب “زلمة البيت” كان والدي ينعته “يا بنت”. كان مجبراّ على مداراتي لا لأني أنثى أحتاج للرعاية، بل لأني أكبر منه ولا يجوز كسر كلمتي التي تساوي الكثير عند والدي. كنت أشفق على أخي من هذا وأعتبره عنفاً ممنهجاً عليه أيضاً، ليخضع لتصورات والدي في الذكورة، وعليه أن يحارب ليكون أقوى مني وتفوق ذكورته الحقيقية ذكورتي المزيفة. يا لبلدان التخلّف! بدأت في يقين، أن كلينا نخضع للعنف بشكل أو بآخر، أنا والرجل في بلاد لا تحترم الإنسانية ولا الإنسان، وتدوس عليهما بحذاء مهترىء.

كان هذا الحِمل يثقل كاهلي ويقضّ مضجعي، أقضي جلّ أيامي وأنا ضائعة بين الواقع وما يجب أن أكون، بين أن أستسلم لضغوطات والديّ وأتنعم بمكاسب الرجل في مجتمعي، أو أمارس أنوثتي وبالتالي لا أخسر نفسي. .فأنا أحبّ أن أكون تلك الأنثى التي تحظى في كثير من اللحظات بالدلال والغنج. ولكن كان كل هذا ممنوعاً على أمثالي ولن يصدًقه أحد.  لأصبح كالدجاجة التي حاولت أن تطير، فلا أصبحت طيراّ ولا ظلّت كما هي دجاجة مسالمة. أنا الأنثى التي تحتاج أن تلعب لعبة الإناث. والداي يرفضان ويتغاضيان عني، إذا ما لعبتُ مع أصدقاء أخي من الذكور. ترعرعتُ على هذا المفهوم، بين شدّ وجذب، بين إثبات أنوثتي التي ضاعت في دهاليز روحي، وحبي للتمرّد الذي رافق ذلك اللوغو لحياتي، وسبّب الألم الكبير لي و لكلا أبويّ فيما بعد. أي عذاب كنتُ فيه وقاسيته؟ بين ذكورة فكرية مخصيّة، وأنوثة أجاهد لأفتخر بها وأستميت في الدفاع عنها ولم أفلح، تحت ضغط العادات والتقاليد. وأفكار مستعصية عن الفهم.

قد ينعتني أحدهم بنكران الجميل لأهلي. فقد وضعوني في مرتبة الرجال في أقوالي وأفعالي. وماذا أريد أكثر من هذا؟ فكثر يتمنون ما وفًره والدي لي وتغاضت عنه أمي  كبنت. ولكن كانت هناك غصّة ما زلتُ أقاسي منها لليوم.

لماذا لم أكن ألبس كالإناث؟  لماذا لم أكن أمشي وألعب مثلهن؟ لماذ لم أستطع إزالة نظرات وأقوال زملاء صفّي الذكور آنذاك؟  حينما يقولون لي اليوم: “كنا نخاف من الاقتراب منكِ لأنك قويّة ولم تفسحي لنفسك المجال لتكوني أنثى، تلعبي ألعابنا ونذهل باتقانك لها، وفي كثير من الأحيان نجدك تلك الفتاة التي تنضج على مهل بعيداّ عنك”. حتى تمادى أحدهم بالقول: “كنت أشفق عليك وأتمنى لو تنظري لنفسك قليلاً كي تتلطفي بأنوثتك، التي بدأت تظهر للعيان رغماً عن توصيات أهلك”، ابتسمتّ له ولم أجب.

كيف فهمت القوة وقتها، وأي منقلب كنتُ فيه وعشتُ في اغتراب؟ مفاهيم ذقتُ الأمرّين منها، ومن التنمّر عليها من قبل أهلي ومحيطي، لدرجة أصبحتُ كتلك التي رقصت على السلّم “لا يلي فوق شافوها ولا إلي تحت سمعو ها”.

أسعى جاهدة وأنا في حيطان الستين، لمحوها من حياتي، وتغير مجرى حُفر في عمق شخصيتي، وإبداله بأنوثة متصالحة مع غريزتي التي أعشق.

نعم هذا العنف المبطّن، كثيرات يقاسين منه بصمت، وتكون ارتداداته عليهن وعلى نفسياتهن فيما بعد وعند اختيار الشريك وخيمة. يقعن فريسة المعتقدات، والبعض يتباهين بها، ويرفضن أنوثتهن تحت مسميات كثيرة. ولكن في الولوج إلى دواخلهن، نجدهن متعبات، مهزومات، يرفضن الاندماج، لينشدن السكينة ولا يجدنها.

سأظل أكتب لهذا اليوم كل يوم وكل لحظة من عمري. وسألاحق الأمهات اللواتي يكرًسن أنفسهن للدفاع عن ذكورة مزيفة. ففي كل لحظة يثبت واقعنا، وبعد هجرة الشباب، وترك والديهما تحت رحمة الإناث من الأسرة،  أن رعايتهن أرحم وألطف لكونهن إناثاّ.

خاص بـ”شبكة المرأة السورية

شاركنَ المنشور